الكبرياء هي أقدم الخطايا. وهي عِلّة سقوط الشيطان (إشعياء14: 12-14)، وكذلك الإنسان (تكوين3: 5). ومكتوب «يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة» (يعقوب4: 6). وهناك فارق بين مدرسة العالم التي تُعظّم الإنسان وتجعله يبحث عن ذاته، ويشعر بقيمته، ويُعجَب بنفسه، ويفتخر بامتيازاته الجسدية ومواهبه الطبيعية؛ كالذكاء والجمال والفصاحة واللباقة والثروة والصحة والنجاح والشهادة والعائلة ... الخ. وبين مدرسة الله التي تُفَرِّغه من ذاته، وتُعلِّمه أنه لا شيء، فيتضع، ويشعر بحقارته وفساده وعجزه، ويُقدِّر النعمة التي اتجهت إليه، عالمًا أنه في ذاته لا يستحق أي شيء.
إن الشخص المتّضع هو الذي وصل إلى نهاية ذاته، وما عاد مشغولاً بنفسه بل بشخص المسيح. لا يبحث عن مكان له، بل عن مجد وتعظيم المسيح. وشعاره كما كان المعمدان: «ينبغي أن ذلك يزيد، وأني أنا أنقص» (يوحنا3: 30). وهذه هي روح الخادم الذي يُسَرُّ الرب بأن يستخدمه.
إنه أمر محزن أن نجد كثيرين في الساحة الآن يتّخذون من الخدمة مجالاً لتحقيق ذواتهم. وهناك التسابق على القيادة والأماكن البارزة في الخدمة التي تحقّق الشهرة. وكلٌّ يريد أن يكون الأول. وصارت الخدمة مجالاً للتنافس والصراعات بين مَن يخدمون. وتسرّبت روح العالم وحب الظهور لتصبح هي الصفة السائدة وسط المؤمنين، بدلاً من روح السيد الذي قال: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم» (متى11: 29).
لقد ظهرت هذه الروح وسط التلاميذ في أيام المسيح، إذ حدثت مشاجرة بينهم عن مَن يكون الأعظم. في الوقت الذي فيه كان الرب يتكلم عن آلامه وصلبه، وأنه «قد جاء لا لكي يُخدَم بل لكي يَخدِم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين». وكم نخجل إذ نراه في اللية الأخيرة وقد «قام عن العشاء، وخلع ثيابه، وأخذ منشفة واتَّزر بها. ثم صبَّ ماءً في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنشفة التي كان مُتَّزرًا بها» (يوحنا13: 4، 5). وقال لهم: «أنا بينكم كالذي يخدم» (لوقا22: 27). لقد أخذ المكان الأخير، وخدم كالعبد الصغير، فياله من مثال!
وهذه الروح المتضعة كانت في الرسول بولس الذي معنى اسمه “صغير”. حيث قال عن نفسه: «أصغر جميع الرسل» (1كورنثوس15: 9). وأيضًا «أصغر جميع القديسين» (أفسس3: 8). وأيضًا «مَن هو بولس، ومَن هو أبُّلوس؟ بل خادمان آمنتم بواسطتمها» (1كورنثوس3: 5). وبهذه الروح كان يُحرِّض إخوته قائلاً: «لا شيئًا بتحزُّب أو بعُجب، بل بتواضع؛ حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا» (فيلبي2: 3، 4). ويا لها من أخلاق فاضلة تليق بالخادم أن يرى ويُقدِّر ما يفعله الآخرون، ويفرح باستخدام الرب لهم، وليس أن يرى نفسه فقط ويحتقر الآخرين. مثلما فعلت مرثا إذ قالت: «(أنا) أخدم وحدي» (لوقا10: 40). لقد كانت مملوءة من الذات وحُب الظهور والبحث عن الإطراء والمديح الذي يشبع الجسد. وهل هذه خدمة تحظى بسرور الرب وإعجابه؟! إن الجسد لا يحتمل أن يرى آخر أفضل منه، وأحيانًا لا يحتمل أن يرى آخر معه في الساحة حتى لو كان أقل منه. فهو يريد أن يكون الأول والوحيد في الصورة. بينما بولس كان يقرن نفسه دائمًا بآخرين مثل تيموثاوس وسلوانس وأبُلّوس وغيرهم.
إن الخادم المتضع لا ينشغل بنفسه، ولا بما يقوله الآخرون عنه. ولا يتكلّم عن نفسه وإنجازاته. ولا يجعلك تنشغل به، بل يقودك إلى المسيح لتتعلَّق به. إنه يبحث عن المكان الأخير والخدمات الخفيَّة والأماكن المستترة. وكل هدفه أن يرضي سيده. ولا ينتظر مكافآت هنا، بل يمد البصر إلى كرسي المسيح. إنه لا يُسيء إلى أحد، ولا يستاء من أحد إذا جُرِحَت كرامته، أو إذا أساء الظن به الآخرون. إنه يعرف في أعماقه أنه تراب ورماد. وهو على استعداد أن يعترف بأخطائه مهما كان هذا مُذلاً أو مخجِلاً. في الوقت الذي فيه يسعى الكثيرون إلى تبرير أنفسهم وإدانة الآخرين.
ما أحوجنا كخُدّام أن نكون مثل جدعون في عفرة عندما قال: «ها عشيرتي هي الذُّلَّى في منسى، وأنا الأصغر في بيت أبي» (قضاة6: 15). ومثل إرميا الذي قال: «إني لا أعرف أن أتكلَّم لأني ولد» (إرميا1: 6). ومثل موسى الذي قال: «مَن أنا حتى أذهب إلى فرعون؟» (خروج3: 11). وداود الذي قال: «(أنا) ابن عبدك يَسَّى البيتلحمي» (1صموئيل17: 58). فكل هؤلاء كانوا يشعرون أنهم لا شيء، ولهذا استخدمهم الرب بنجاح.
إن الخادم المتضع لا ينقاد إلى الأمور العالية، بل إلى الأمور البسيطة والمتضعة، قانعًا بظروفه وإمكانياته، مكتفيًا بما هو فيه، شاكرًا في كل شيء، مسرورًا بأقل قدر من المراحم، معترفًا بفضل الرب في كل نجاح أو إنجاز.
ليت هذه الكلمات تكون من سمات حياتك كخادم تُجمِّله النعمة بروح الاتضاع التي نفتقدها كثيرًا في هذه الأيام.