طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني
كتب الحكيم قديمًا في أمثال29: 18 «بلا رؤيا يجمح الشعب، أما حافظ الشريعة فطوباه». ومن هذا نفهم أن وجود رؤيا وأهداف واضحة في حياة الإنسان تحدِّد مسار حياته وتحفظه من التخبّط والضياع. وهذا ما نتعلمه بكل وضوح من حياة سيدنا العظيم عندما جاء وعاش بيننا كإنسان على الأرض.
أولاً: ما هو مفهوم الرؤيا؟
- هو الموضوع الرئيسي الذي يسيطر على تفكير الشخص، ويتحكم في أسلوب حياته ومسارها، حاضرًا ومستقبلاً، وهذا ما نسمعه من السيد حين قال «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمِّم عمله».
- هو الشيء الذي يحدِّد أولويات الشخص، ويجعله يضحّي بأي شيء آخر في سبيل تحقيقه. وهذا ما فعله السيد عندما «علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا انصرف أيضًا إلى الجبل وحده» (يوحنا6: 15).
- هو الشيء الذي يجعل الشخص مستعِدًّا لتحمل أي تكلفة في حياته حتى يتممه، مهما كانت كبيرة وعظيمة، وهذا ما نسمعه من سيدنا وهو يصلي في بستان جثسيماني «يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت» (متى26: 39).
ثانيًا: من أين تأتي الرؤيا؟
1- العالم الذي نعيش فيه:
إن العالم الذي نعيش فيه ويسيطر عليه إبليس، عدو البشرية، يحاول جاهدًا تحويل تفكير الإنسان وقلبه إلى أهداف خاطئة مدمِّرة لحياته وهذا ما سقط فيه سليمان قديمًا، وكتب اختباره الشخصي «قلت أنا في قلبي هلمَّ أمتحنك بالفرح فترى خيرًا... ثم التَفَتُّ أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطلٌ وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس» (جامعة2: 1-11). ويمكن تلخيص الرؤيا العالمية الباطلة في ثلاثة أمور قد حذر منها الرب يسوع بأقوال كثيرة:
- الغِنى: «لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يُفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون» (متى6: 19) وكذلك «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها» (لوقا9: 25).
- التمتعات الزمنية: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون، أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟» (متى6: 25).
- المركز العالمي: «أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم فلا يكون هكذا فيكم بل من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبدًا» (متى20: 25-27).
2- الله أبونا:
إن الرؤيا الصحيحة الآمنة، التي تُسعد الإنسان وتحفظه في الطريق الصحيح، تأتي من عند الله أبونا؛ لذا نقرأ «كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران» (يعقوب1: 17). وهذا ما عاشه سيدنا - له المجد - على الأرض حيث قال «لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني» (يوحنا6: 38).
ثالثًا: ما هو طريق إدراك هذه الرؤيا الصحيحة؟
إن كانت الرؤيا الصحيحة مصدرها الله أبونا، فكيف يمكننا التأكد من أن لنا هذه الرؤيا في حياتنا وأننا نعيش عمليًا لتحقيقها؟
- أن نفرغ أنفسنا بالكامل من أي أهداف شخصية بشرية، ونعيش حياة التسليم الكامل لإلهنا. وهذا ما عبَّر عنه سيدنا بالقول «لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني» (يوحنا5: 30) وهذا ما تمثل به بولس الرسول «مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غلاطية2: 20).
- الشركة المستمرة مع الرب. حيث فيها نتمتع بقيادة الروح القدس لنا في كل شيء، وهكذا نُحمى من خداع إبليس وتضليله. وهذا نراه واضحًا في حياة سيدنا عندما جاءه إبليس ليجربه في البرية فأجابه بالقول «للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» (متى4: 10).
- التجديد المستمر للذهن، عن طريق اللهج في كلمة الله. وهذا يحفظنا من تأثير الأفكار العالمية المحيطة بنا وهذا ما أشار له السيد بالقول «إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم» (يوحنا7: 17).
رابعًا: كيف تتحقق الرؤيا عمليًا في حياتنا؟
لقد أنهى سيدنا العظيم حياته على الأرض بصلاته للآب بالقول «أنا مجَّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يوحنا17: 2). وهنا يأتي السؤال: ما هي الخطوات العملية التي علينا اتباعها حتى نتمِّم الرؤيا الصحيحة ومشيئة الله في حياتنا؟
- تنفيذ الخطوات السابقة حتى نتأكد أننا نسير طبقًا لمشيئة الله في حياتنا وينطبق علينا ما جاء في رومية12: 2 «لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة». وهذا ما عبَّر عنه سيدنا بالقول «لم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حينٍ أفعل ما يُرضيه» (يوحنا8: 29).
- ترجمة الرؤيا إلى أهداف محدَّدة، عملية، واقعية، يمكن تحقيقها بخطوات واضحة. وهذا ما نراه واضحًا في سيدنا العظيم فنسمعه يقول «أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف»، ثم يقول «لي خرافٌ أُخَرُ ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضًا فتسمع صوتي وتكون رعيةٌ واحدةٌ وراعٍ واحدٌ». وأيضًا «وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل» (يوحنا10: 10، 11، 16).
- وضع برامج واضحة في الحياة، مع ترتيب الأولويات لتنفيذ هذه الأهداف، وعدم ترك الأمور العاجلة تطغي على الأمور الأساسية الخاصة بتنفيذ هذه الأهداف. وهذا ما نراه واضحًا في حياة السيد، فعندما سمع بمرض لعازر لم يذهب في الحال بل نقرأ «مكث حينئذ في الموضع الذي كان فيه يومين». وأيضًا عندما دعاه إخوته للذهاب إلى أورشليم في العيد كان رده عليهم «اصعدوا أنتم إلى هذا العيد. أنا لست أصعد بَعدُ إلى هذا العيد، لأن وقتي لم يُكمَل بعد». وأيضًا قال لتلاميذه «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهارٌ. يأتي ليلٌ حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمَلَ» (يوحنا11: 6؛ 7: 8؛ 9: 4).
هذا ما نتعلّمه من سيدنا وقدوتنا الكاملة عندما عاش في أرضنا، فماذا عني وعنك؟ هل بحق نعرف رؤية الله لحياتنا على الأرض؟ هل لنا أهداف واضحة تتفق مع هذه الرؤيا ونعمل لتحقيقها في حياتنا؟ ليتنا نراجع أنفسنا ولتكن صلاتنا «اختبرني يا الله... وأهدني طريقًا أبديًا» (مزمور139: 23، 24).