استوقفتني عند باب الخروج من قاعة أحد الاجتماعات، يعلو وجهها بعض الشحوب المختلط بمسحة خفيفة من القلق، وقد تندَّت عيناها بغلالة رقيقة من الدمع لم تخفَ علىّ. حيَّتني باقتضاب، وقالت لي في رقة لا يعوزها الصراحة: ”أنا أُصلّي من أجلك“. صمتت قليلاً متردّدة، وبدا عليها أنها تريد أن تضيف شيئًا. أجبتها مبتسمًا: ”حسنًا أنا جَدُّ سعيد بذلك، ولكن لأجل ماذا تصلين؟ إننا بالكاد نعرف بعضنا البعض“. استدركت الأخت، وعرَّفتني بنفسها، ثم أكملت حديثها: ”إنني أصلي أن يهبك الله مزيدًا من الألم“!! .. غاصت ابتسامتي، وراحت سعادتي، وحملقت بها ذاهلاً لبرهة دون جواب - وإن توجَّعتُ هاتفًا في أعماقي: ”ليه كده؟! حرام عليكي“ - ثم خرج صوتي مبحوحًا سائلاً: ”ولمَ يا أختاه؟! فيمَ أغضبتك؟“.
أبانت الأخت عن مقصدها قائلة: ”مررت وأسرتي بتجربة قاسية، حين سمح الرب أن يتعرض شقيقي الوحيد لظرف قاسٍ وهو متغرِّب في إحدي الدول، في حين أنه لم يرتكب ذنبًا، بل علي العكس تمامًا، فهو شاب تقي، يحب الرب من القلب، ويسعي لخدمته بإخلاص“. أومأتُ في صمت مرهفًا السمع. أكملت الأخت: ”لم نفهم لِـمَ أصابنا ذلك المصاب، خاصة أن أمر أخي كان بين يدي أناس قساة القلوب، وكان الأمر غاية في التعقيد. أرتمينا على الرب بكل قوتنا مودعين لديه الأمر برمته، منتظرين المنفذ الذي سيرتِّبه لنا. وفي هذه الأثناء تشجعنا كثيرًا بترنيمة سمعناها تتكلم عن سلطان الرب علي الأحداث والأشخاص وكل الأشياء:
بالحكمة إنت وحدك كل الخيوط في يدَّك ليك الكلمة الأخيرة عالي وإيدك قديرة |
|
ماسك زمام الأمر وأمين بطول العمر مهما قالوا ف كلام قلبك مليان حنان |
نظرت إليّ مستفسرة: ”أوَ لستَ كاتبها؟“ قُلتُ: ”بلى!“ قالت: ”لم تكن لتفعل دون أن (يزنقك) الرب في مواقف مؤلمة.. أليس كذلك؟“ وافقت بإيماءة وأنا سارح... ”إذًا ليت الرب يزنقك أكثر، فإن هذا لَمفيدٌ حقًا“. وأصارحكم يا أصدقائي بأنني لم أستطع القول: ”آمين“.
تركتني الأخت غارقًا في أفكاري.. مزيدٌ من الألم..؟! لا، لست أرغب. لست أزعم أنني ”أيوب زماني“، إلا إنني نلت من الألم حصّة لا بأس بها؛ وفي الواقع لست أريد المزيد، فأنا لست كغيري من المؤمنين الأبطال مَنْ تحمَّلوا نيران التجارب المحرقة فرحين. ثم أومض في ذهني بقوة خاطرٌ ما:
ماذا لو ترك ليّ الرب حرية الأختيار ما بين:
- حياة بها جرعات محدَّدة من الضغط والألم، بحسب مقاييس إلهية حكيمة، تدفعني لحياة أكثر قربًا من الرب وتؤهِّلني لمزيد من الاستخدام الإلهي... أو
- حياة بلا ضغط أو (زنقات) أو ألم، وأيضًا بلا استخدام.
وحين أمعنت التفكير، وجدت أنني سوف ألتمس خيارًا ثالثًا: - حياة بلا ألم أو ضغط؛ شريطة أن أظل قريبًا منه مُستخدَمًا من قِبَلِهِ.
ولكن كان الرب ليجيبني مترفقًا بجهلي: ”لن يصلح يا ابني“.
قال رجل الله داود معبِّرًا عن ضرورة الألم : «قبل أن أُذلَّل أنا ضللت»؛ فحين كانت الأمور على ما يرام دون ضغط أو آلام كان الضلال والزيغان، وأما حين تذلل فقد حفظ وأطاع أقوال الله (مزمور119: 67).
أوَ نحن أفضل حالاً من داود؟ نبَّهنا الرسول بطرس أن لا نستغرب التجارب المحرقة، كأنه قد أصابنا أمر غريب (1بطرس4: 12) فمن الطبيعي، بل من الضروري، أن يحدث هذا.
عمومًا، ولحسن الطالع، لا يضع أمامنا الرب ذلك الخيار، ولا يستأذننا قبل أن (يزنقنا). هو يعلم بمتي نحتاج إلي جرعة محسوبة من الألم.
فليست الحياة المرفَّهة السهلة هي من أولويات الرب لنا، بل الحياة المثمرة الناضجة. وأنّى أن يتأتّى لنا ذلك بغير تجارب متنوعة (يعقوب 1: 3). هو يستطيع أن يزيل الضيق والظلم والمرض والضغوط المتنوعة من حياتنا بكلمة؛ ولكن ما يريد أن يعلِّمنا إياه من خلالها جميعًا لهو أهم وأثمن بكثير من راحتنا واستمتاعنا، كذا من الغني، الشهرة، أو الصحة. نعم فسعادتنا الحقيقية أن نكون خاضعين له حاملين نيره مشابهين صورته.
صديقي.. من الألم:
- نتعلم : دروسًا روحية لم نكن لنتعلمها بدون الألم. قال كاتب المزمور أيضًا «خير لي أني تذللت، لكي أتعلم فرائضك» (مزمور 119: 71).
- يتقوي الإيمان ويلمع كثيرًا «إن كان يجب تُحزنون يسيرًا بتجارب متنوعة، لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني» (1بطرس 1: 6، 7).
- نصبر: «عالمين أن إمتحان إيمانكم ينشئ صبرًا». يعوِّل الله كثيرًا علي هذا الأمر في حياة أولاده؛ فهو البرهان علي رفض إرادتنا الذاتية، وانتظارنا لإرادته. لذا يكمل الرسول تحريضه: «وأما الصبر فليكن له عملٌ تام» (يعقوب1: 3، 4). فلنخضع لله إذن، ولندعه يعمل فينا، فينشئ فينا تسليمًا له ورفضًا لذواتنا وإرادتنا. وسيقودنا ذلك إلى أن:
- ننضج : عندما يُمتحن إيماننا بالألم ونصبر، ويكون للصبر عمله التام فينا؛ نصبح تامين (أي ناضجين) كاملين غير ناقصين في شيء. سنظهر الحياة المسيحية في جمالها واتزانها.
- نتنقى: فإن كل غصن فيه «يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمرٍِ أكثر» (يوحنا 15: 2).
- نشترك في قداسته: فقد يكون في حياتنا ما يستدعي أن يتدخل أبونا المحب بالتأديب، فإن «الذي يحبه الرب يؤدبه»، وفي الواقع أن كرهه لوجود الخطية في حياتنا يدفعه لأن يدعنا متألمين وهو كاره، كأب يعطي ”حقنة“ لطفله في مرضه وهو كاره. ولماذا؟ لأعظم غرض: «لكي نشترك في قداسته» (عبرانيين12: 6، 10).
- نعزي آخرين: «مبارك الله ... إله كل تعزية، الذي يعزينا في كل ضيقتنا (لماذا..؟) حتي نستطيع أن نُعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزي نحن بها» (2كورنثوس1: 3، 4). الله يعزينا ليس لمصلحتنا فحسب، بل ليؤهِّلنا كي نعزي الآخرين. ثم يذكر شيئًا هامًا: «فإن كنا نتضايق فلأجل تعزيتكم» (2كورنثوس1: 6).
- فرصة لنوال أكاليل: «طوبي للرجل الذي يحتمل التجربة؛ لأنه إذا تزكّى ينال إكليل الحياة» (يعقوب1: 12). نعم إن «خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا» (2كورنثوس4: 17).