الزمان والمكان
بعد مضي 14 شهرًا من الرحلة، سقط الشعب في ”قبور الشهوة“ (معنى ”قبروت هتّأوة“)؛ وسنرى لماذا كان هذا.
قلب الله وقلب الإنسان
هذا ما نخرج به من البرية. فمما مضى حتى الآن، رأينا نعمة الله وصلاحه، وكيف جهَّز للشعب كل ما يلزمهم لإكمال الرحلة بسلام. فأعطاهم المن لإشباعهم، والصخرة لإرواء عطشهم، والسحابة لهدايتهم وإرشادهم. وفوق الكل أنه بنفسه يسكن في وسطهم ويسير معهم.
ولكن من الجانب الآخر، وبدءًا من هذا الأصحاح ولمدة 39 سنة، سنرى قلب الإنسان والخطايا الدفينة الموجدة به والتي بدأت تتحرك وتظهر في الأفراد والجماعة. وإليك بعض مما هو مدوَّن في سفر العدد:
ص11: شكوى وشهوة.
ص12: كلام مريم وهارون على موسى رجل الله.
ص13 إرسال من يتجسس الأرض.
ص14 طلبهم رئيسًا ليرجعوا إلى مصر.
ص15 رجل يحتطب في يوم السبت (كسر الناموس).
ص16 قورح وجماعته يقاومون موسى وهارون...
هذا بعضٌ من الكلٍّ.
التذكر والنسيان
لم نقصد من تاريخ الرحلة أن نكشف حالة الشعب القديم، بل أن نكتشف أنفسنا فيهم، عملاً بقول الكتاب «وهذه الأمور حدثت مثالاً لنا، حتى لا نكون نحن مشتهين شرورًا كما اشتهى أولئك... فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً وكُتبت لإنذارنا، نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور» (1كورنثوس10:6،11). فما الذي حرَّك في قلوبهم - كجماعة وكأفراد - كل هذا؟ إنه نسيان إحسان الرب لهم من ناحية، ومن الأخرى تذكّر أيام لم ينسوها، وحوّلوها، بأذهانهم الفاسدة من أيام عبودية وذل معاجن الطين وسياط المسخرين إلى أيام الخير والوجبات الساخنة من الأسماك واللحوم!! لذا حرَّضهم موسى فيما بعد «وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك» (تثنية8:2). وأيضًا حرضنا بولس «أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قُدَّام» (فيلبي3:13).
الشكوى والشهوة
سريعًا ما فقد الشعب حاسة التذوق لطعام طعمه كرقاق بعسل، فاحتقروه ولم يقدّروه وكأنه فقد حلاوته وقالوا عنه «ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن». ثم تحول هذا الملل إلى كلام أصعب «كرهت أنفسنا هذا الطعام السخيف».
عزيزي القارئ.. أخاف أن يكون قد أصابك الملل من الكتاب المقدس، فلم تعد تستطيع أن تقول «وُجد كلامك فأكلته» (إرميا15:16)، وهجرت مخدعك، وأصبحت الاجتناعات الروحية عبئًا ثقيلاً عليك. أخشى أن تكون قد فقدت شهيتك الروحية ولم تعد تتلذذ بالرب، وبدأ قلبك يميل إلى طعام مصر وأطايب العالم من أفلام ومسلسلات، وروايات ومجلات، وأردأ المعاشرات. فاحذر من الشكوى والشهوة لئلا تقع في قبورها.
السؤال والهزال
«أسرعوا فنسوا أعماله. لم ينتظروا مشورته. بل اشتهوا شهوة في البرية، وجرّبوا الله في القفر. فأعطاهم سؤلهم وأرسل هزالاً في أنفسهم» (مزمور106:13-15). لاحظ الترتيب التصاعدي للهبوط: نسيان الإحسان، ثم تذكر أيام زمان، ثم شكوى، ثم شهوة، ثم كلام، ثم بكاء، ثم إصرار على تحقيق رغبتهم، ثم سقوطهم في قبور شهوتهم.
لقد أعطاهم الرب لحمًا ليأكلوا 30 يومًا حتى صار لهم كراهة، ثم ضربهم ضربة عظيمة.
قبور الشهوة
إن الله في حكمته يعطي ما يكفي لنا في رحلة البرية، ويمنع ما يرى أنه غير نافع لنا. لكن ماذا عن القلب الخدّاع؛ فكثيرًا ما يشتكي، فماذا نفعل؟! ما علينا إلا أن نذهب إلى الرب، لا بقائمة تمتلئ بما نشتهيه ونطلب منه فقط المصادقة والتوقيع، بل نذهب إليه بصفحة بيضاء مذيَّلة بتوقيعنا ليملأها بما يريد ونحن نقول له «لتكن لا إرادتي بل إردتك». لكننا أحيانًا كثيرة لا نفعل هذا. فالطالب منا يذهب إلى الرب مُصِرًّا على كلية معينة وتخصص معين، والباحث عن العمل يذهب ليسأل الرب وفي خياله مكان معيَّن ومرتب محدد، والمقبل على الزواج يذهب لسؤال الرب وهو مصرّ على شخصية محدَّدة. فما الذي يفعله الرب بعد أن يكون قد أرسل صوته لنا مرارًا كثيرة لننتظره ونصبر له؟ إنه يسمع، ويعطينا سؤلنا، وما هي إلا أيام قليلة حتى نشعر بالهزال والضعف، ويصير ما كنا نرى فيه إشباعًا لرغباتنا هو سبب سقوطنا في قبور شهواتنا.فليتنا نتعلم الدرس.