موعد مع الأبدية على طريق الأسكندرية
الزمان: الاثنين الموافق 8/12/2008، حوالي الساعة الخامسة والثُلث فجرًا.
المكان: على مشارف الجيزة في طريق أسيوط-القاهرة الصحراوي.
كان الأوتوبيس ينهب الأرض نهبًا في طريقه إلى الإسكندرية، وفيه ما يقرُب من خمسين فردًا من الكنيسة الإنجيلية الثانية بمحافظة المنيا، وذلك لقضاء ثلاثة أيام هناك. وكالعادة كان بعضهم نائمًا والقليل منهم منشغلين في أحاديث جانبية مختلفة. وفجأةً، انحرف الأوتوبيس يمينًا، فَتَوَجَّه أحدهم بالسؤال للسائق بصوت عالٍ: “هو فيه إيه يا عم ميلاد؟” لكن الإجابة جاءت في شكل انحرافة أخرى أكثر قوة ناحية اليسار، ثم تَلَتْهَا انحرافة أخيرة ناحية اليمين، مع صوت فرقعة عالية؛ وبدأ الأوتوبيس يميل بشدة على جانبه الأيمن حتى انقلب مع صوت اصطدام شديد. وقرر “مولر” - أحد الشباب - أن يمسك، وبشدة، في مسندي الكرسي الذي يجلس عليه، وأغمض عينيه، غير مُدركٍ ما يحدث. وانطفأت أنوار الأوتوبيس، وساد الصمت، وانقلب الأوتوبيس مرتين متتاليتين، وعاد الصمت المُطبِق مرة أخرى.
فتح مولر عينيه فوجد نفسه ما زال مُمْسِكًا بكلتا يديه في الكرسي. ورفع عينيه فوجد السماء فوقه تُرسِل ظلامًا دامسًا. أمسك بإطار الشباك الأسفل وقفز خارج الأوتوبيس ليجد نفسه في وسط الصحراء في ظلام وصمت مُخِيف. كان يشعر أنه في حلم. ثَـمَّةَ أمر غير طبيعي. تُرى هل أُصيب أحد؟! سمع أحد الشباب يصرخ بصوتٍ عالٍ مُتَحَدثًا إلى الإسعاف من هاتفه المحمول. نظر أسفل قدميه حيث يقف ليجد إحدى الشابات، مُلقاة على الأرض دون إصابات. حاول إيقاظها، لكنها لم تستجب! بدأ يشعر أن الأمر أكبر بكثير مما تخيل!
وجد حوالي سبعة ميكروباصات تقف في مواجهة الأوتوبيس على الطريق وتضيء الأنوار العالية لتكشف المنطقة، ونزل السائقون والرُّكَّاب يبكون بحرقة في مشهد مؤثر جدًا. وبدأ بعض منهم يساعد وبعض آخر يقوم بالاتصال بالإسعاف. وبدأ مولر يتحرك، عَلَّه يكتشف ما حدث لأصدقائه. وجد البعض ممن لم يصابوا مثله يتحركون باحثين عن ذويهم.
بدأ نور الصباح يُشرِق والمنظر يتضح شيئًا فشيئًا: الأوتوبيس منقلب بلا سقف، وعلى جانبيه يرقد جميع من كانوا فيه؛ منهم من يتحرك، ومنهم من يرقد بلا حراك. كانت أصوات المصابين تعلو من كل اتجاه منادية عليه كي يساعدهم. راح يتحرك هنا وهناك كي يغطي هذا ويساعد ذاك؛ وفي ذهنه صديقه “مينا”؛ تُرى أين هو؟!
وجد أمامه سالي؛ كانت مصابة في جانب وجهها والدماء تنزف منها. نادته طالبة منه أن يرفع وجهها عن الأرض حتى لا تختنق من التراب، فرفع وجهها بيده. حاول مساعدتها للنهوض، لكنها صرخت فظل جالسًا بجوارها، ساندًا وجهها بيده، حتى جاءت سيارة الإسعاف وأخذتها. وفي أثناء ذلك سمع أحدهم يهتف: “هناك اثنان داخل الأوتوبيس؛ يجب أن نخرجهما!”.
ظل هو يبحث بعينيه عن صديقه، والأفكار تدور برأسه دون هوادة وبلا ترتيب؛ ما بين ذهول وحزن وخوف ورهبة وتوتر. وتحرك باتجاه الأوتوبيس ليجد أخيرًا صديقه مينا. لقد كان أحد الاثنين الذين كانا داخل الأوتوبيس. وجده نائمًا على الأرض مُغَطى، ولم يكن الأمر يحتاج لتفسير أو سؤال!
كانت هذه هي الرواية التي رواها لي “مولر”؛ أحد الناجين من هذا الحادث المؤسف الأليم؛ والذي تناقلته الجرائد ووسائل الإعلام المختلفة، في نفس يوم الحادث. وقد كان صداه عظيمًا في محافظة المنيا، بل وأكاد أقول في جميع أنحاء الجمهورية وبعض من دول العالم. وبعدما روى تفاصيل الحادث، كان لي معه هذا الحديث:
Ð حدثني يا مولر من فضلك عن ظروف الرحلة قبل الحادث!
~ كانت ظروف هذه الرحلة فعلاً غريبة جدًا؛ حتى من قبلها بأيام، فقد قال لي والدي قبل الرحلة بيوم: “أنا لا أشعر براحة في داخلي من جهة هذه الرحلة!” وقد كانت هذه هي أول مرة في حياتي يقول لي والدي هذه العبارة. وفي زيارتنا لمنزل الأخ فريد وزوجته لتعزيتهما في وفاة ابنتهما “ساندي”، فاجأتنا والدتها بأن ساندي، قبل الحادث بيوم واحد، جلست أربع ساعات متصلة تقرأ الكتاب المقدس، وقد كانت هذه هي أطول فترة جلستها ساندي أمام كلمة الله! وحينما فتحت والدتها الأجندة؛ التي تدون فيها ساندي ملاحظاتها وتأملاتها؛ وجدت آخر آية كتبتها:
«أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي»!
Ð هل من دروسٍ كانت لك في كل ما حدث؟
~ في البداية لم أستطع التفكير في أي شيء؛ لكن بعد يومين من الحادث، وحينما جلست مع نفسي، اكتشفت أمرًا خطيرًا؛ وخصوصًا في دائرة أصدقائي الذين أعرفهم جيدًا؛ وهو أن أصدقائي الذين فقدتهم في هذا الحادث كانوا هم أكثر المُستعدين للأبدية. وهذا لا يعني بالطبع أن الله دائمًا ينُهِى حياة الأكثر استعدادًا، لكن هذا ما شعرتُ به في هذا الحادث بالذات، وعندي أسبابي... لقد فقدت ثلاثة أصدقاء في هذا الحادث: مينا، وساندي، ومونيكا. وقد كان الثلاثة بصدق من أروع ما يمكن في علاقتهم بالله وخدمتهم له، بشهادة من يعرفونهم. أما بالنسبة لي فقد شعرت أنه كان أمرًا طبيعيًا أن أكون من ضمن من ماتوا في هذا الحادث، وبالطبع ليس لأنني أفضل منهم قد نَـجَّاني الرب؛ لكنني وصلت لأمرٍ؛ وهو أن الرب أعطاني حياة لغرض واحد فقط، أن يكون ما تبقى من الحياة له ولمجد اسمه. وأقولها لك صراحةً: إذا لم أعِش الباقي من العمر للرب، فأنا أؤكد لك أن الحياة ستكون تافهة وبلا معنى! فبعدما رأيت هذا الأمر الرهيب تأكدتُ من شيء واحد، وهو أن الحياة قد تنتهي في لحظة، ولن يُحسَب منها إلا ما نعيشه للرب وهذا هو الذي يعطي للحياة معنىً حقيقيًّا!
قارئي العزيز؛ ليس لدي تعليق أكثر مما هو مكتوب أمامك، لكنني سأترك معك آيتين من كلمة الله، أرجو أن يعمل الله بهما في قلبك: «عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ، فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ. هُوَذَا جَعَلْتَ أَيَّامِي أَشْبَارًا، وَعُمْرِي كَلاَ شَيْءَ قُدَّامَكَ. إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ جُعِلَ» (مزمور39: 4، 5)؛ «لَيْسَ لإِنْسَانٍ سُلْطَانٌ عَلَى الرُّوحِ لِيُمْسِكَ الرُّوحَ، وَلاَ سُلْطَانٌ عَلَى يَوْمِ الْمَوْتِ، وَلاَ تَخْلِيَةٌ فِي الْحَرْبِ، وَلاَ يُنَجِّي الشَّرُّ أَصْحَابَهُ» (جامعة8: 8).