حد فاهم حاجة؟

واحدة من هوياتي الغريبة هي قراءة المكتوب على مؤخرات سيارات النقل؛ فبعضها لطيف ويعبر عن حِسّ أدبي فطري، وكثير منها يظهر ما تُبطنه عقول وقلوب الناس. والمرة التي أعنيها في مقالي هذا، هي مقولة قرأتها أكثر من مرة تقول “ما حدش فاهم حاجة”! ومؤخرًا، في نهاية 2008 المنصرم، كنت في انتظار القطار، فأخذت أجول بعيني بين عناوين الجرائد عند بائعها، بينما نما إلى سمعي حوار سريع بين اثنين من حالي. قال الواحد: “يا أخي أنا مش فاهم اللي بيحصل الأيام دي”، فأجابه الآخر: “مش انت وحدك، هو فيه حد فاهم حاجة”! وفي يوم بعدها وجدت أحد أصدقائي وقد كتب على صفحته في الإنترنت: “مش فاهم حاجة”!


جالت كل هذه الخواطر بذهني وأنا أتأمل في أحداث 2008 الساخنة، بصفة خاصة أحداث الربع الأخير منه، وما خلفته من حيرة في قلوب الناس.. الانهيار الاقتصادي العالمي.. القرصنة البحرية وتأثيرها على التجارة العالمية.. فوز أول أسود برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.. الصراع الدموي الدائر في غزة.. حادث أتوبيس المنيا.. وغير ذلك الكثير.


جلست أتأمل، مجتهدًا أن أخرج بدروس وعِبر من قراءة بعض الأحداث، وكأني أسمع قول السيد «ليفهم القارئ» (متى24: 15). فحتى إن لم نتمكن من فهم كل الأبعاد، فعلى الأقل ينبغي أن نخرج بفائدة ما، ولو من بعض الأحداث. وسأكتفي هنا بثلاثة؛ لظروف مساحة النشر.


الأزمة الاقتصادية العالمية


تسمع هذا التعبير يتردد على شفاه الناس في كل مكان، مهما اختلفت أعمارهم وثقافاتهم ومهنهم وتعليمهم، يتردد مصحوبًا بالحيرة مما يحدث والخوف من المجهول. وكيف لا وهي أزمة حقَّقت أعلى خسائر في التاريخ، بل ووصلت لإعلان دول إفلاسها، عدا تأثيرها البالغ على الأفراد. وتوقع الخبراء ألا تظهر لها أي بادرة انفراج قبل عدة سنوات، بل اعتبر بعضهم أن هذه هي بداية النهاية. وصار أقرب ما ينطبق على الناس القول: «عَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ... وَالنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ» (لوقا21: 25، 26).


كيف بدأت القصة؟ بدأت في الغرب بنشاط قوي في سوق العقارات، وذلك من خلال ما يسمى “القرض العقاري”، وهو - للتبسيط - أن يقوم أحد البنوك بشراء البيت أو المبنى الذي تريده، على أن تدفع قيمته بالتقسيط على المدة التي تريدها، مقابل فوائد سنوية يُتفق عليها مع البنك، على أن يبقى البيت من حق البنك حتى تمام السداد. وهكذا صار شراء بيت سهل، سهولة مشوار صغير. فزاد الطلب على البيوت، فارتفعت أسعارها باضطراد، وانتعشت هذه التجارة وأنعشت البنوك. فالبنك، بضمان هذه القروض (والتي أصبحت، كأرقام، في حسابه) يقوم بشراء سندات مالية، يتم إعادة بيعها في أسواق أخرى محققًا مكاسبًا أكثر، وهكذا.


واستمر الحال حتى ابتدأ عدد المتعثرين في سداد القروض يزيد بشدة. فلقد اشتروا بغير أساس يرتكنون عليه في سداد مديونياتهم. فابتدأوا في إعادة بيع البيوت مرة أخرى، وزاد المعروض منها، في حين قَلَّ الطلب عليها؛ فانهارت أسعارها. وهكذا وجدت البنوك نفسها في ورطة، فالبيوت التي تعتبرها رهنًا لأموالها انخفضت قيمتها إلى قرابة النصف، في حين أن الديون، في المقابل، بقت كما هي؛ وبذلك أفلست البنوك. وطال التزعزع البورصة. بل وحتى الدول! وهكذا توالت الانهيارات، وسط بكاء مودعي البنوك، ونحيب مالكي البيوت، وعويل مستثمري البورصة، وقلق جميع الدول! لقد أصبح الاقتصاد العالمي كله في حالة انهيار! وكل هذا تركز في مسافة شهر من الزمان! والغريب أن هذا الانهيار طال الدول الكبرى أولاً! على أنه لا توجد دولة معفاة من التأثر بدرجة أو أخرى!


سأل واحد في حيرة: “من الكاسب في كل هذه القصة ما دام كل هؤلاء خاسرين؟!”. والإجابة أنه: لا كاسب! فالعالم قد خسر قيمته! لقد قَلَّت قيمة الأشياء فيه تلقائيًا، وهذا بعينه ما يقصده الكتاب من التعبير «وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ» (1يوحنا2: 17)، «لأَنَّ هَيْئَةَ هَذَا الْعَالَمِ تَزُولُ» (1كورنثوس7: 31).


صديقي، هل كنت تمني نفسك أن تؤمِّن مستقبلك ببعض النقود في البنوك أو البورصات؟ وهل أفقت الآن على أنها لا تستطيع أن تعطي لك الأمان؟!


هل لا زلت معجبًا بهذا العالم البرَّاق؟! أ لم تدرك بعد خداع هذا البريق؟!


هل ستظل تسعى لامتلاك ما فيه من شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة؟ ألا تستطيع أن تميز أنه ينهار؟!


دعني أكمل لك قول الكتاب «الْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». فلن يبقى شيء من كل عطايا العالم، بينما لن يذهب شيء عملته لإتمام مشيئته في حياتك. فليتنا جميعًا نتعقل هذا، فنسعى لنتمم ما يريده الرب في حياتنا، فهذا أروع وأبقى ما في الحياة.


القرصنة البحرية


مر وقت طويل كنا نعتقد فيه أن القرصنة هم قصص من الماضي، حيث كان يصعد القرصان ومعاونوه، بمظهرهم المشهور وسيوفهم المُشهرة، وربما واحد يغطي عينه بعصابة سوداء.. إلى آخر مثل هذه الصور التي تَمُتّ لأساطير الماضي بصلة. ولكننا فوجئنا بعودتها في القرن الحادي والعشرين بكل تكنولوجياته وإمكانياته. فإذ بمجموعة صغيرة من الناس، من دولة أفريقية تمزقها الصراعات، يتخذون منها مركزًا. لا يقوى عليهم أحد ولا يردعهم رادع، يصولون ويجولون، ويعيثون فسادًا في البحر، فيستولون على السفن ويفرضون فدية ضخمة للإفراج عنها، وهم يفعلون ذلك بمنتهى القسوة واللا إنسانية. حتى أصبح هذا الممر المائي الشهير، البحر الأحمر، عنوانًا للهلع وفقدان السلام، ولا أحد يعرف مصيره التجاري! والعجيب أن تكتل دول العالم الكبرى لمواجهة هذه الظاهرة لم يسفر عن نتائج بعد!


يقول الكتاب «اعْلَمْ هَذَا أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ، لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ... بِلاَ حُنُوٍّ... شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ، خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ...» (2تيموثاوس3: 1-5). هل ترى كم تنطبق صفات الأيام الأخيرة على أمرنا هذا؟


وكل ذلك في زمن تتردد فيه كلمة “السلام” على الأفواه كمقصد جميع البشر، من أفراد وحكومات وهيئات. لكن الواقع أنه «لاَ سَلاَمَ قَالَ الرَّبُّ لِلأَشْرَارِ»، بل و«حِينَمَا يَقُولُونَ: سَلاَمٌ وَأَمَانٌ؛ حِينَئِذٍ يُفَاجِئُهُمْ هَلاَكٌ بَغْتَةً... فَلاَ يَنْجُونَ» (إشعياء48: 22؛ 1تسالونيكي5: 3).


حادث الأتوبيس


التعت حين نما إلى علمي خبر انقلاب أتوبيس يحمل مجموعة من شباب كنيسة المنيا الإنجيلية، ولأني كنت بعيدًا عن الوطن فلم يمكنني الاتصال بمن يطفئ نار الخبر في داخلي. وما أن عدت حتى بدأت أبحث عمن أعرفهم ومن لا أعرفهم. عرفت خبر الشباب الذين رحلوا. وهدّأ قلبي ثلاثة أمور، الأول أن جميعهم من المشهود لهم بمحبتهم للرب، وكل منهم قد ضمن مكانه مع المسيح بالإيمان القلبي به، فقد انطلقوا ليكونوا معه وذاك أفضل لهم جدًا. الأمر الثاني كان عندما سألت عن أهاليهم، فعلمت أن الله مد يد التعزية الإلهية لهم، واستطاع بقدرته وحده أن يكفكف الدموع عن العيون والقلوب. والثالث أن الله استخدم هذا الخطب الجلل ليعيد نفوسًا غالية، هزها الحدث، إلى حضنه بعد طول ضلال.


دُرت على بعض المستشفيات والتي كان يرقد فيه مصابو الحادث، ورحت أستمع لتشخيص حالات كل منهم وما يتوقعه الطب لكل واحد. تأثرت جدًا بقول واحد منهم للطبيب “الكلمة الأخيرة للرب وليس للطب”. وتعجبت للسلام الإلهي غير المصطنع المرسوم على وجوههم التي كانت تلمع لمعة طفت الألم البادي أيضًا على أجسادهم، وعلى ألسنتهم جميعًا كلمات تمجد الله!


أعترف أنني تعلمت الكثير جدًا في زياراتي هذه، وعدت أحملهم في قلبي، مصليًا لأجلهم، متوجعًا لوجعهم، متعزيًا بتعزيتهم، محدّثًا بما صنع الرب معهم.


ساهر، واحد منهم. خرج من الحادث في حالة إغماء أقلقت الأطباء، فلم يكونوا يعرفون السبب. لكن الرب تدخل في حالته، وأفاق بطريقة اعتبرها الطب معجزة، وأجريت له عملية في رجله. سألته: هل شعرت أن الله تركك في وقت الحادث؟! أجاب: بل لم أره قربي مثلما رأيته في هذه الأيام، لقد عرفت فيه الأب المحب المهتم.


سألته عما خرج به من الحادث، فقال بتلقائية: كانت حياتي قبل الحادث مثل الكثير من الناس في الكنائس، أخلاقي طيبة، مواظب على الاجتماعات، وليَّ خدمة. لكن الحقيقة، كل هذه اكتشفت أنها لم تكن أكثر من شكل اجتماعي دون قوة حقيقية. إني أعتبرها الآن كلا شيء ولقد تعلمت أن العمر قصير قصير! أقصر من أن أضيعه في أمور تافهة. لذلك، فما بقي منه لن يكون إلا للرب وحده.


لما طلبت منه أن يوجِّه كلمة لقراء المجلة قال: لن ينفع إلا الحياة التي نعيشها للرب، لو سرت معه، هذه هي الحياة. لا تتبع الناس، بل اتبع الله وحده؛ فستكون مؤثرًا في الناس بالبركة. لكني أود أن أقول لكل واحد ليتك تتعلم هذا الدرس دون ظروف قاسية.
* * * *
دعني أسألك في نهاية جولة أفكارنا: هل فهمت يا صديقي؟!


اسمح لي أن أختم معك بالترنيمة التي لخَّص بها ساهر اختباره، والتي أرجو أن ترن في عقلك:


الله بيتكلم، ليَّ وليك الله بيكلم كل الناس


بصوت وصورة من حواليك قُلّ له يعطيك قلب حساس


الله بيقول لكن قلبي محتاج يتعلم كيف يسمع


تنطفي أنوار الأرضيات وارفع عيني عليه واتطلع


* * * *
«مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ وَأَعْمَقَ جِدّاً أَفْكَارَكَ. الرَّجُلُ الْبَلِيدُ لاَ يَعْرِفُ وَالْجَاهِلُ لاَ يَفْهَمُ هَذَا» (مزمور92: 5، 6).