جلس ساهمًا يفكر في ما سمع لتوِّه من أحد كبار الأطباء المتخصصين في أمراض الكبد؛ أن نسبة انتشار مرض الالتهاب الكبدي الوبائي ”فيروس C“ في مصر هي الأعلى بين كل دول العالم حيث تربو على 20% بينما يؤكد آخرون أن الرقم يصل إلى 30% أو حتى أكثر. أفزعته الأرقام كثيرًا، خاصة بعد أن علم أن أحد أشهر أسباب طرق العدوى هو الحقن أو أدوات الحلاقة الملوثة. تذكّر شنودة ما كان يحدث وهو صغير حين كان استخدام المحقن الزجاجي هو وسيلة الحقن الوحيدة لكل أفراد الأسرة، بل وكم امتد الأمر لاستعمال الأقارب والجيران لذات المحقن. هاجمته الشكوك بضراوة: أليس من الجائز أن يكون قد انتقل إليه الفيروس وهو لا يدري من المحقن أو من أدوات عم ”سكسوك“ الحلاق التي يُشَك كثيرًا في نظافتها؟ وما زاد من شكوكه علمه أن الأعراض يمكن أن تبدأ بمجرد الإحساس ببعض الإرهاق والتعب وهو يشعر بهما كثيرًا... أو في كثير من الأحيان لا يوجد أي أعراض؛ ولا يُكتشف المرض إلا مصادفة أو عند إجراء تحليل روتيني عند السفر للخارج أو خلافه. قرر أن يقطع الشك باليقين ويجري تحليلاً حتى يستريح. أجرى شنودة تحليله، ولبث ينتظر النتيجة وهو في حالة من القلق والترقب، حتى أتى ميعاد استلام النتيجة، فذهب مسرعًا ليستلمها. أخذ نتيجة التحليل وعاد إلى بيته يحاول قراءتها بنفسه حيث لم يكن قد استشار أحدًا من الأطباء.
لم يكن يتوقع أن يجد في نتيجة التحليل إلا واحدة من كلمتين أتقنهما من تحاليل عدة أجراها من قبل: positive أو negative. الأولى تعني أن نتيجة التحليل موجبة وأنه مصاب بالمرض، والثانية تعني أن التحليل سلبي وهو سليم ولله الحمد. أما ما فوجئ به صديقنا أنه لم يجد أيًّا من الكلمتين؛ ولكنه وجد بدلاً منهما عدة أسطر بخط عريض لم يفقه منها شيئًا على الإطلاق، ولكنه استنتج بتحريض وتأييد من شكوكه المُستَعِرة، أنه مُصاب بالمرض في مراحله المتأخرة! كيف لا وهو لم يجد كلمة واحدة كما هو المعتاد، ولكنه وجد كلمات كثيرة بخط عريض؟! وأقنعته شكوكه وأوهامه أنه مائت لا محالة إن لم يكن في خلال ساعات ففي غضون أيام!
لم يكن شنودة يخاف الموت، فقد كان مؤمنًا تقيًّا، يخدم الرب بكل طاقته، ولكنه يتمنى أن يخدمه أكثر وبشكل أفضل. قال لي أخي شنودة ما يلي: ”ركعت على ركبتيَّ، وقد رسخ تمامًا في داخلي أني سأرقد قريبًا، ولكني وعدتُ الرب وأنا راكع أمامه أنني سأهبه كل ما تبقى من عمري، حتى لو كانت أيامًا معدودة. وأعطاني الرب نظرة مختلفة لقيمة الحياة المتبقية؛ فصمَّمت أن أعيش حياتي بتكريس أكثر، بإخلاص أعمق، واستغلال أفضل لما تبقى من أيام أو شهور“.
أخبر شنودة زوجته بأخباره وبما عزم عليه، فطلبت منه أن يستشير طبيبًا، فرفض قائلاً لها إن الأوان قد فات، وإن المهم هو أن يخدم الرب بأمانة فيما تبقى له من العمر. لكنها ألـحـَّت عليه فرضخ إكرامًا لها. اتصل بطبيب صديق له يثق في مشورته ليحكي له ما مَرَّ به وما عزم عليه، فطلب منه صديقه الطبيب أن يقرأ له المكتوب ليترجمه له، فقال له: لا تُتعب نفسك، لقد أنتهى الأمر والمهم الآن هو أن أنتفع بالباقي من عمري وأستثمره جيدًا. أجابه الطبيب: أما وقد حدّثك الرب بما تفعله في حياتك المقبلة فهذا هو أهم ما في الأمر، وهو ما أراد أن يذكِّرك به بِغَضّ النظر عن نتيجة التحليل، أما الآن فأخبرني بما في التقرير. صمت شنودة هنيهة ثم أردف يقول: هذا أمر معقول وكلام مقبول. قرأ شنودة التقرير لصديقه الطبيب بشيء من الصعوبة، وساد صمت مُطبق قبل أن يضحك الطبيب قائلاً: احتفظ جيدًا بما قد سمح لك الرب أن تشعر به أن ما تبقى من العمر هو جَدُّ قصير، ونفِّذ ما عزمت عليه أن تكرم الرب بكل كيانك، ولكن تحليلك سليم تمامًا! أجاب شنودة غير مُصَدِّق: أنت تحاول أن تطمئنني! قال الطبيب: كلا! هذه هي الحقيقة. سأل شنودة: إذًا ما هذا الكلام الكثير في خاتمة التقرير. قال الطبيب: إنه إعلان عن مزيد من التحاليل المتقدّمة للكشف المبكر عن هذا المرض. صمت شنودة وعاد يصلي مجدَّدًا وهو يشكر الرب، ويصمِّم على ما قد عزم عليه أن ينتفع تمامًا بما تبقى له من العمر.
صديقي، تأثرتُ بإخلاص أخي من أخبرني بهذا الموقف، وما تركه من أثر بالغ على حياته، وتأثرت أكثر لعلمي بمدى حبّه للرب وتضحيته من أجله وهو يريد أن يحيا أكثر حبًّا وعمقًا وإخلاصًا. فماذا عساي أنا أن أفعل؟!
كم من المرات حدَّثنا الرب بحديث مماثل في مواقف مشابهة، فيها أنقذ حياتنا من موت مُحَقَّق في حادث أو ما أشبه، وكرر الحديث علينا ونحن نودع شابًّا قد فارق الحياة. نعم، كم من المرات حدّثنا عن قيمة الوقت والعمر، فتأثرنا لبرهة، ثم عُدنا ثانية إلى جهلنا مُتَـنَاسين قول الكتاب: «فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة. من أجل ذلك لا تكونوا أغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب» (أفسس5: 15-17) وكلمة ”التدقيق“ تحمل في أصلها اليوناني معنى أن تنظر حولك جيدًا. إنها تصوِّر لنا شخصًا يسير ناظرًا حوله باحتراس، وكأنما يسير وسط الألغام والأسلاك الشائكة. نعم، علينا أن نكون شديدي الحذر؛ لئلا نَزِلَّ أو نسقط في خطية ما. أما كلمة ”مفتدين“ فكلمة مُستعارة من قاموس التجارة وتعني ”الشراء بدفع ثمن“؛ فمن أراد أن يكسب شيئًا ما، عليه أن يدفع في سبيله أو يضحي بشيء ما. فهل نفعل ذلك لننقذ وقتنا من الضياع؟ هل ندفع من راحتنا، من وقت مكسبنا، من وقت التسالي والترفيه عن النفس؟! هل نضحي بهذا كله في سبيل أن ننقذ وقتنا من الضياع فيما لا يفيد؟!
من بين النصائح المشهورة للقدماء: ”إنه لمن أخطر الأمور أن تهمل أمرًا ثم تحاول بعد ذلك أن تساوم الأيام كي تسترده“.
ليتنا نعيش الزمان الباقي في الجسد لإرادة الله لا لشهواتنا؛ لأن زمان الحياة الذي مضى يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم (1بطرس 4: 2، 3). إن رسالتي لك اليوم أن تتذكر ما قد عزمت عليه يومًا وقررته، أو لعلك تأخذ الآن قرارك أن تعيش ما تبقى لك من العمر للرب بقلب موحد: فهذا هو أحكم قرار، نعم لأن الحياة قصيرة ولأن الأيام شريرة.
يارب:
خليني اعيش عمري اللي باقي
يكفى اللي ضاع من بين ايديا |
|
ع الأرض ليك
وانا اسمي ليك |