أنقلبت السيارة، فاعتدلت الحالة
“ع. ف” من الإخوة النادرين؛ المشهود لهم بالأمانة ودماثة الخلق، خدمته تدبيرية في اجتماعه المحلي، وهو يعمل بحكمة وبهدوء. يشدَّك ذوقه الصالح، ولن تنسى كرم ضيافته إذا قابلته، سواء في مكان عمله كتاجر، أو مع الكنيسة كعابد. هو من مُريدي مجلة “نحو الهدف” منذ ولادتها؛ فبمجرد أن سقط في يده عدد منها، أُعجب بها وأحبها من النظرة الأولى يوم أن كانت صغيرة، واشترك بمئة عدد يقوم بتوزيعها كلها مجانًا على أصدقائه وزملائه...
لكن كما يقولون: “دوام الحال من المُحال”؛ فكل شيء بل وكل شخص يتبدل ويتغير. مَرَّ صاحبنا، كما هو الحال مع كثيرين منا، بفترة من الضعف الروحي الشديد، مع الاحتفاظ بالذوق العام والشكل العام. وإذا سألت عن الحالة الروحية لواحد من هؤلاء لأجابك على الفور: “الحمد لله! كله تمام، مافيش أحسن من كده”. لكن الواقع مرير وخطير؛ لأن الشهية لكلمة الله فُقِدت، والرغبة في الشركة مع الله فَتُرت. البهجة غابت، والشهادة مالت. العصبية زادت، والسطحية بانت. والشيء العجيب أنه رغم أوقات الضعف والهزال الروحي التي نمر بها، إلا إن جود الرب ولطفه وعطاؤه لا ينقطع، ومراحمه لا تتوقف حتى في بُعدنا عنه، وجفائنا له. وفي حالة أخينا “ع. ف”، والأوضاع هكذا، أكرمه الرب اللطيف بزوجة فاضلة، ولم يحرمه من زرع البشر فأعطاه “يوسف”... كل ذلك ولم يحن قلبه، ولم تُرَد نفسه، ولم يَعُد رغم الأصوات الكثيرة، والعظات الكبيرة من هنا ومن هناك؛ ومن هذا ومن ذاك، وظل بعيدًا عن مستواه الروحي المعروف به من قبل. تألمت زوجته كثيرًا لأجل حالته الفاترة، وانقطاع شركته؛ فكانت تحزن كثيرًا وهي ذاهبة إلى الاجتماع بدونه، وتحزن أكثر عند رجوعها لأنه لم يكن معها، وقد حُرم من سماع صوت الرب في الرسالة التي تكلم بها. لم تَكُف الزوجة عن تشجيعه والحديث معه عن ضرورة الرجوع، ولما تعبت، وأحست أنها فشلت، كَفَّت عن الكلام، واكتفت بالصلاة لأجله، قائلة له بصوت أسيف، عبارة حاسمة وقاطعة: “على العموم أنا هاسيبك لربنا ومعاملاته!”.
كان الأخ “ع” غير سعيد بالمرة لحالته، وكان يود أن يرق ويعود إلى المحبة الأولى، لكنه كان يشعر كما لو كان عاجزًا أو مُخَدَّرًا.
وحدث ذات يوم أنه قاد سيارته إلى إحدى القرى، كعادته الأسبوعية للتحصيل، وبينما هو يقترب من مقصده، اختلت عجلة القياة، وإذ بالسيارة تنقلب عدة مرات، وأخيرًا سقطت من الطريق إلى الزراعات المجاورة. هَمَّ الناس من المارة والفلاحين، كعادة المصريين وشهامتهم في مساعدة المصابين والمنكوبين، وأسرعوا لإخراجه من السيارة المنقلبة. لم يستطيعوا أن يُخرجوه، فأحضروا عَتَلة لفتح باب السيارة بالقوة، فأخرجوه منها، وإذ به يخرج سليمًا مُعافَى بلا جروح أو كسور أو كدمات. وقف الأخ “ع” يتحسس يديه ورجليه، رأسه وجسمه، غير مُصدِّق ما جرى وسط دهشة المشاهدين وذهولهم؛ فالسيارة تهشمت أما سائقها فلم يُصَب بأي أذى، حتى النظارة التي كان يلبسها لم تُخدَش. أدرك الأخ “ع” أن هذه ليست سوى يد الإله المُحب، الإله الذي ابتعد عنه، وهجر كتابه، وترك اجتماعه، وحرم نفسه من سماع صوته. وقرَّر بعدها أن يعود إليه. ما كان أحد من الناس الكثيرين الذين تجمعوا ليروا الحادث يعرف ما كان يدور في ذهن الشاب؟ ربما أدركوا بالكاد أنه كان يفكر في الرجوع إلى أهله، وبيته، لكن الواقع أن “ع” كان يفكر في الرجوع إلى ربِّه ودربه، بعد أن استوعب الدرس، وفهم ماذا يريد الرب منه لكي يفعله! فرجع إلى نفسه، وقام وجاء إلى أبيه السماوي، ويا لبهجة اللقاء ويا لفرحة السماء!
عاد أخونا إلى البيت حرفياً حيث الزوجة والابن والأهل، ورجع إلى عقله، وعاد روحياً إلى الآب المحب بل وإلى عائلة الله، وابتدأ الجميع يفرحون.
صديقي وصديقتي،
ما أسوأ ترك الرب والابتعاد عنه وعن شعبه! اسمع ما يقوله الرب في كتابه « اِبْهَتِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ مِنْ هذَا، وَاقْشَعِرِّي وَتَحَيَّرِي جِدًّا، يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً»، وإن «تَرْكَكِ الرَّبَّ إِلهَكِ شَرٌّ وَمُرٌّ» (إرميا 2: 12،13، 19). وعندما يترك المؤمن مكانه يرتبك ويتحير ويكون «مِثْلُ الْعُصْفُورِ التَّائِهِ مِنْ عُشِّهِ، هكَذَا الرَّجُلُ التَّائِهُ مِنْ مَكَانِهِ» (أمثال27: 8). صديقي وصديقتي قُلْ، وبصدق: أين أنت تجلس؟
*هل أنت نظير النبي إيليا، الذي في خوفه ويأسه، جلس تحت شجرة وطلب الموت لنفسه (1ملوك 19: 1-5).
*أم نظير أبرام ذلك المؤمن التائه، الذي لم يستشر الرب ونزل إلى مصر (تكوين12: 10-20).
*أو كيونان الخادم غير المطيع في بطن الحوت (يونان 2).
*أو مغوى كرجل الله في بيت النبي الشيخ (1ملوك 13).
*أو مؤمن كسلان كداود على السطح (2صموئيل11).
*أم أنت شاهد صامت كلوط في سدوم (تكوين 14).
*أو تلميذ فاشل مثل بطرس الذي جلس مع الجواري يستدفئ (لوقا 22).
لكن ما أجمل الرجوع إلى الرب يسوع.
وقبل أن أودِّعك، أْوُدع بين يديك ثلاث درر غالية، يجدر بي وبك أن نحفظها عن ظهر قلب، وهي:
«الله أمين، الذي لا يَدَعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا» (1كورنثوس10: 13).
«كل تأديب في الحاضر لا يُرَى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عبرانيين12: 11).
«هوذا طوبى لرجل يؤدبه (يُقَوِّمه) الله، فلا ترفض تأديب القدير. لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان» (أيوب5: 17، 18).
ليتنا نتقبل كل شيء من يد الرب بالشكر والرضى، إن كان مرضًا أو ضيقًا، احتياجًا أو حرمانًا، إصابة أو خسارة، إحتياج أو حرمان، موقنين أن كل أعماله يعملها بحكمة. اسمع السيد وهو يقول: «لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم في ما بعد» (يوحنا13: 7). ليتنا نُسَلِّم له، ونثق فيه. «ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله» (رومية8: 28)، وتؤدي في النهاية إلى مجده في حياتنا، كما إلى بركة نفوسنا.