نعمته ورقته

لقد تميز ربنا المعبود بمشاعر إنسانية رقيقة وسامية. إنه الشخص الوديع الذي خَلَت حياته من كل خشونة. قط لم يجرح أحدًا مع أنه تعرّض لكل أنواع التجريح. كان يحس ويشعر بمشاعر الآخرين ويقدّر ضعفهم وصِغر نفوسهم. وكان يترفق بكل عاثر أو ساقط، متأنيًا ومترفقًا بالجميع. إنه المكتوب عنه «قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ» (مت 12: 20).

مرة تقابل مع امرأة ساقطة من السامرة لها تاريخ أثيم. ولكي لا يحرجها أمام الآخرين، أرسل جميع التلاميذ لكي يبتاعوا طعامًا، حتى ينفرد بهذه النفس. إنه لم يشهّر بأحد على الاطلاق، بل أن محبته سترت كثرة من الخطايا. لقد بدأ حديثه الرقيق معها بالقول «أعطينى لأشرب». مع أن اليهود لا يعاملون السامريين. وفي نور محضره الفاحص كشف أعماقها. لكنه في أسلوب راقِ فريد إذ قال لها «حسناً قُلتِ ليس لي زوج .. هذا قُلتِ بالصدق» (يوحنا 4: 17). لقد تلمس شيئًا فيها لكي يشجعها به.أنه في نعمته وحلاوته يعرف كيف يستدرج النفس للاعتراف الصادق، ويُشعرها بالأمان والحنان واستعداده للصفح والغفران رغم كل الشرور. إن نعمته ورقته تحاصران النفس فلا تستطيع الهروب من محضره.

ومرة أخرى أحضر إليه الفريسيون امرأة واقعة في الخطية (يوحنا8) وقالوا له موسى أوصانا أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت؟. قالوا هذا ليجربوه لكي يشتكوا عليه. فعلم يسوع أفكارهم. وشعر بما يعتمل في نفس المرأة من خزي وخوف، من ندم واحراج. لقد تعرضت للتجريح والتشهير من جانب أولئك المشتكين عليها. أما هو فلم يشأ أن يعمّق هذا الشعور أو يعرضها لمزيد من الإحراج، بنظرة فاحصة أو بكلمة توبيخ. فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض. وبنفس السمو عامل المشتكين عليها عندما بدأوا ينصرفون من الشيوخ إلى الآخرين إذ كانت ضمائرهم توبخهم. فلم يشأ أن يجرح أحدًا منهم لا بكلمة تعيير ولا بنظرة شماتة. بل ظل منحنيًا إلى أسفل. لعل نعمته تجتذبهم وتؤثر فيهم. أخيرًا رفع نظره وقال للمرأة بكل احترام وتوقير «يا امرأة». وهي نفس الكلمة التي استخدمها مع أمه (يوحنا 2، 19) وتعني (يا سيدة) «أين هم أولئك المشتكون عليك»؟ ... «ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا». هل رأيتم شعورًا رقيقًا ساميًا كهذا نحو أشر الخطاة ؟!

ونفس هذه المشاعر أظهرها نحو اثنين من أحبائه في ضعفهما. فمرة أرسل المعمدان يسأله «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» (متى 11: 3). لكن الرب لم يعاتبه بكلمة. على العكس تحدث عنه بأغلى الكلمات أمام الآخرين، ودافع عنه في يوم ضعفه. وحيث فشل يوحنا في الشهادة للمسيح ابتدأ يسوع يشهد عن يوحنا. وقال أنه لم يَقُم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا. كذلك يوم أنكر بطرس المسيح أمام العبيد والجواري، وابتدأ يلعن ويحلف أنه لا يعرف ذلك الرجل. وبالرغم من الإساءة والتجريح اللذين مسَّا شعور الرب في هذا الموقف، لكنه تسامى فوق أحزانه الشخصية مترفقًا ببطرس في ضعفه. لقد التفت الرب ونظر إلى بطرس ولم يكلمه بكلمة واحدة. لأنه لم يشأ أن يعرضه للخطر ولا أن يسبب له شيئًا من الحرج أمام الآخرين إذا ثبت كذبه قدامهم، لو تحدث معه بكلمة توبيخ أو عتاب. لقد ستر بطرس في هذا الموقف ولم يسمح أن تهتز صورته في أعين الناس حتى وهو في أسوأ حالاته. وهكذا يفعل معنا نحن أيضًا دائمًا. فهل ليسوع من مثيل في نعمته ورقة مشاعره.