ما أسرع ما تمر الأيام وها نحن نحتفل بالعدد المئوي من مجلتنا الحبيبة «نحو الهدف» بعد أكثر من خمسة عشر عامًا من بداية صدورها!
ودوران عجلة الزمن بلا هوادة جعل الكثيرين يتمنون امتلاك «آلة الزمن» كفكرة الكاتب الإنجليزي هربرت ج. ويلز الخيالية في إحدى أهم رواياته التي تخيل فيها شخصًا ابتكر آلة يستطيع أن يقودها مثل السيارة، يحرك مقبضها ويظبط تاريخها فتعود به إلى الوراء إلى زمن مضى أو تمضي به إلى الأمام إلى المستقبل لتكشف له عما قد حجبه الغيب. وفي الرواية التي كتبها ويلز عام 1895 جنح به الخيال إلى أن جعل بطل روايته يسافر في رحلة طويلة عبر الزمن، حتى وصل إلى عام 801 ألف و701 بعد الميلاد في مدينة لندن، حيث وجد جنسين من البشر: أحدهما هو أحفاد طبقة الأغنياء حيث وجد أنه أصبح جنسًا ضعيفًا غبيًّا اسمه «الإيلو»، فبسبب تطوره عبر الزمن دون الحاجة إلى استعمال أي نوع من أنواع القوة أو الذكاء خَبَت تلك المَلَكات لديهم شيئًا فشيئًا؛ وافترض الكاتب أن القدرة العقلية المنخفضة لـ«الإيلو» هي نتيجة الصراع المستمر نحو التطور إلى أن وصل أجدادهم إلى أقصى درجات الرفاهية، وعندئذ توقفت الحاجة إلى التطور حتى أصبحوا بلا خيال أو إبداع. ولأنهم توقفوا عن العمل تدنت قواهم الجسدية تمامًا وأصبحوا بالأطفال أشبه. واستنتج المؤلف أن البشر قضوا عصورًا وأجيالاً يحاولون الوصول إلى الراحة المطلقة فما قادهم ذلك إلا إلى التدهور والدمار. أما الجنس الآخر فهم سلالة الطبقة الفقيرة الكادحة، وجدهم مخلوقات شنيعة المنظر أشبه بالعناكب «المورولوك» تعمل وتكدح تحت الأرض ولكنهم يستغلون فرصة ضعف «الإيلو» فيتسللون في جنح الظلام ليخطفوا أحد أفراده كلما سنحت الفرصة ليأكلوه.
ولست هنا بصدد تحليل فكر الكاتب الذي استرسل في تخيل ما يمكن أن ينشئه الصراع الطبقي بين البشر، ولكنني أطلق العنان لخيالي مفكرًا فيما يمكنني عمله بمثل هذه الآلة لو وجدت، وهو فرض مستحيل!
لا أعتقد أنني سأحاول مطلقًا أن أسافر بها إلى المستقبل فلديَّ من يضمنه لي، وقد وعد - وهو الصادق - أن يظل معنا كل الأيام وإلى انقضاء الدهر. نعم، قد يعترينا الفضول أن نعرف ما سوف يحدث في أيامنا وأعوامنا المُقبلة ولكن دعنا لا نهتم بما قد يحدث في الغد فقد طلب منا السيد ألا نهتم بما للغد، فيكفي اليوم شره (متى5). ولنا ملء اليقين في الوعد الكريم أنه سيخبئنا في مظلته في يوم الشر (مزمور27). أعلم أن هناك من عيل صبرهم وهم ينتظرون الرب منذ سنين لأجل أمر طال انتظاره لأجل شهادة دراسية أوعمل أو زواج ويتمنون أن يسافروا بآلة مثل هذه لو استطاعوا ليعلموا ماذا تخبئ لهم الأيام! ولكن أليست هذه الأمور هي التي يدربنا الرب من خلالها لنظل ملتصقين به فنتقوى وتتجدد قوتنا أثناء انتظارنا له، فلهؤلاء الأحباء أذكرهم فقط بالتحريض الهام: «أما الصبر فليكن له عمل تام لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء» (يعقوب1: 4). والواقع أن ويلز لم يبعد كثيرًا في تصوره عن دمار المستريحين عن الحقيقة «فويل للمستريحين» (عاموس6). فليست الراحة الجسدية وحُب الرفاهية هي فكر الله لنا بل إن الهدف الإلهي هو أن يصل بنا إلى هذه الشخصية المسيحية الناضجة مستخدمًا كل ما يحيط بنا من أحداث واشخاص وآلام وتجارب، لكي نكون تامين وكاملين، فهل نفقد ذلك بقلة صبرنا؟! إن على كل مِنَّا أن يتعب عاملاً الصالح بيديه (أفسس5).
إن كلمة الله تخبرنا عما يطمئننا من جهة المستقبل. ألا يكفينا أنه قد ضمن مستقبلنا حاضرًا وأبديًّا؟! لقد أنار لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل (2تيموثاوس1: 10)، ووهبنا وعده الصالح أن يكون أمان أوقاتنا، وفرة خلاص وحكمة ومعرفة (إشعياء33: 6). لذا فحري بنا أن لا نخاف شرًّا ولو سِرنا في وادي ظل الموت، ولو قامت علينا جيوش أو حروب ففي ذلك يحفظنا في طمأنينة وسلام.
إن من يعيشون في بُعد عن الله يقتلهم الفضول ليعرفوا شيئًا عن مستقبلهم، أما نحن فلا يلزمنا آلة مثل هذه ولو وجدت. فالسرائر للرب إلهنا (تثنية29: 29)، ويكفينا أننا أبناء من يمسك المستقبل في يده ويمسك بأوقاتنا وأيامنا في يده (مزمور31: 15)، وهو قادر أن يجعل كل الأشياء أن تعمل معا لخيرنا (رومية8: 28). لذا فالصديق لا يخشى من خبر سوء، قلبه ثابت متكلاً على الرب (مزمور112: 7).
أما ما جعلني أحلم بتلك الآلة الخيالية فهوأمنيتي المستحيلة أن أعود بها إلى الماضي، لكي أُغير أمورًا كثيرة في حياتي قد أحزنت الرب وأحزنتني، لكي أصلح حماقات ارتكبتها، وأصحح قرارات خاطئة اتخذتها، لكي أنظم أوقاتًا فوضوية قد مرَّت بي، وأفتدي أوقاتًا قد ضاعت مني، لكي ألغي أحداثًا من حياتي آذيت بها غيري وجرحت أشخاصًا حولي، لكي أحاول أن أعيد ترتيب أولوياتي بما يتناسب مع مشيئة الله في حياتي... ولكن أتوقف لبرهة مانعًا نفسي من الاسترسال في أحلام اليقظة هذه لأسأل نفسي سؤالاً؟ ما لي أتمنى العودة إلى الماضي لأصلح ما قد أفسدته في حياتي، ولا أبذل جهدًا كافيًا لكي لا أُتلف المزيد منها؟ أهو الكسل الذي يجعل صاحبه يشتهي ولا شيء له لأن يداه تأبيان الشغل (أمثال21: 25)؟
ألا يكفي زمان الحياة الذي مضى لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين في شهوات أنفسنا (1بطرس4: 3)؟
صحيح أنه لا يوجد ما يعيد الزمن إلى الوراء لكي نصلح شيئًا أفسدناه ولكن إلهنا الحكيم القدير يستطيع أن يخرج من الوعاء الذي فسد وعاءً آخر كما يحسن في عينيه (إرميا18). لا نستطيع أن نغيِّر حماقات قد ارتكبناها لكننا نستطيع أن نمسك بمن وعد أن يعوض لنا عن السنين التي أكلها الجراد (يوئيل2: 25). لا نستطيع أن نعود أدراجنا من طريق سلكناه، لكننا نستطيع أن نثق في مَن وعد أن يُقوِّم سُبُلنا وما أعوج منها إن خضعنا له وٍسلمنا له طرقنا (أمثال3: 5، 6)، وإن عُدنا له بتوبة حقيقية تأتي لنا أوقات الفرج من وجهه الكريم وينهي طرقًا باطلة ويهدينا طريقًا أبديًّا. هو يستطيع أن يُخرج من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة، وأن يُحوِّل لأجلنا اللعنة إلى بركة لأنه يحبنا (تثنية23: 5).
صديقي، لا حاجة لنا لآلة خرافية تعيد الزمن إلى الوراء أو تجري به إلى الأمام، إن حاجتنا الحقيقية هي أن نعيش كل يوم يمر بنا ونحن نتضرع إلى الرب أن نكون في مشيئته، بحسب تدبيره وفكره ففي هذا أعظم ضمان لأروع حياة يمكن أن نحياها!