تمثال الحرية وصليب الحرية
مَنْ هي تلك المرأة الجميلة التي تحمل مشعل النور في إحدى يديها، وتمسك بالأخرى كتابًا، ويتغنى الملايين باسمها؟
إنها “الحرية” كما تخيلها الفنان الفرنسي “فريدريك أوجستيه بارتولدي” الذي صمَّم تمثال الحرية الشهير، القائم عند مدخل مدينة نيويورك، والذي أصبح أحد أشهر التماثيل في العالم ورمزًا عالميًا للحرية، والذي صَمَّم هيكله المعدني الإنشائي “جوستا إيفل”.
والتمثال يُمثل سيدة تحررت من قيود الاستبداد، ولقد استخدم “بارتولدي” السلاسل المفككة عند قدميها للتعبير عن التخلص من العبودية والطغيان. أما على رأسها فهي ترتدي تاجًا ذا سبعة أسنّة للتعبير عن القارات السبع أو البحور السبع في العالم كما جاءت في الأساطير اليونانية. وتحمل هذه السيدة كتابًا عليه عبارة “الرابع من يوليو 1776” باللغة اللاتينية وهو تاريخ إعلان الاستقلال في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتظهر السيدة بصورة مَنْ يخطو إلى الأمام للتعبير عن التقدم نحو الحرية، وتحمل مشعلاً للتعبير عن أن الحرية تحقِّق الاستنارة، ومن هنا جاء الاسم الرسمي للتمثال وهو “الحرية تنير العالم Liberty Enlightening the World”.
ويرتفع التمثال 46 مترًا، وأُزيح الستار عنه رسميًا في 28 أكتوبر عام 1884 بعد أن صُنع في وِرَش باريس، وقبله الرئيس الأمريكي “جرور كليلاند” بالنيابة عن الشعب الأمريكي كهدية من فرنسا للتعبير عن الصداقة بين الشعبين.
وفي عام 1903 ثُبتت لوحة من البرونز على قاعدة التمثال، نُقِشَت عليها كلمات قصيدة تُسمى “قصيدة التمثال الجديد” ألَّفتها الشاعرة الأمريكية “إيما لازاروس” عام 1883. تقول هذه القصيدة، وكأنها لسان حال “السيدة حرية”:
أعطوني جماهيركم المُتعَبة المُثقَّلة المسكينة المتزاحمة
جماهيركم الهاجعة التي تتوق إلى استنشاق نسيم الحرية
إليَّ بالبؤساء والتعساء والمتضايقين والمُزدرَى بهم!
أرسلوا إليَّ المُشرَّدين الذين تتقاذفهم العواصف والأنواء
ها أنا في استقبالهم رافعة مصباحي على مقربة من الباب الذهبي!
وتُعبِّر القصيدة عن الأرض الجديدة التي تستقبل المهاجرين إليها لينسوا ما عانوه من اضطهاد وظلم في أوطانهم، وليبدءوا حياة جديدة.
إن الحرية جميلة ومحبوبة، وتستحق أن يبذل الإنسان في سبيلها كل رخيص وغال، وإننا لنرى كل يوم كيف تثور وتتقاتل الشعوب في سبيل الحرية السياسية لكي تشتريها، ولو بالدماء. وفي الحقيقة كم يجب على أولئك الذين يعيشون في بلدان يتمتَّعون فيها بالحرية أن يشكروا الله على نعمته هذه.
إن هذا لشيء عظيم، ولكن المسيحي الحقيقي يتمتَّع بحرية أعظم. لقد قال الرب يسوع المسيح: «لْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ... فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا (أي متمتعين بالحرية الحقيقية)» (يوحنا8:34،36). إن كل شخص يُقبِل إلى ابن الله وينال منه الحياة الأبدية، يتحرَّر بذلك من عبودية الخطية والناموس، والخرافات والأرواح الشريرة. والتعرُّف على الابن بالإيمان يُطلق فينا طاقة الحياة المتحررة. فالنفس تفيض بأفراح الحرية، والضمير يتطهر من الأعمال الميتة، كما من الأعمال الشريرة.
وهناك نصب آخر يرتفع عاليًا فوق التاريخ، مُقدِّمًا الحرية الروحية الحقيقية للشعوب المستعبدة في كل مكان، نصب أعظم بما لا يُقاس من تمثال الحرية الأمريكية؛ ذلك هو صليب الجلجثة الذي عليه عُلِّق الرب يسوع المسيح منذ ألفي سنة. ولأول وهلة قد نرتعب وننفر من ذلك المنظر، ثم نرى ابن الله الذي بلا خطية حاملاً إثم جميعنا ومائتًا عن خطايانا، ومن على الصليب نسمع كلمات الغفران: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ» (لوقا23:34)، ثم: «قَدْ أُكْمِلَ» (يوحنا19:30)، وإذ نضع ثقتنا في المسيح باعتباره مُخلِّصنا وفادينا، يتدحرج عن نفوسنا، المُتعَبة بالخطية، حمل الذنب الثقيل، ونصير أحرارًا إلى أبد الآبدين.
والحرية المسيحية لا تخوِّلنا أن نفعل ما نستحسنه، بل ما يُسِرُّ إلهنا، وهي ليست في اختيار طريقي أنا، بل في اختيار طريق الله، وفي خضوعنا للمسيح. كثيرون يعتقدون أنهم أحرار لأنهم يمرحون ويلهون ويفرحون ويفعلون ما يحلو لهم، وقلَّما يُفكرون بالله - إذا فكروا - ظنًّا منهم أن تسليم الحياة للمسيح التزام يأسر الإنسان، ويحدُّ من حرِّيَّته.
وفي مملكة الظلمة تُتاح للناس “الحرية” في ما يروقهم ويحلو لهم: الجنس والمخدرات والخمور، والحرية في تجاهل إعلان الله الواضح لذاته في كلمته المقدَّسة، والحرية في تكوين أفكارهم الشخصيَّة من جهة حقيقة الله ومطاليبه، وإذ تؤثِّر فيهم حضارةٌ لا تُدخل الله في حسبانها، يعيشون في قلب عالمهم الصغير ويسلكون سُبُلَهم الذاتيَّة، مُخلِّفين فوضى روحيَّة وأخلاقية هائلة.
ولكن علينا نحن أن نأخذ كلمة الله على محمل الجدِّ لكي نُثبت للعالم حولنا أن الحرية الحقيقية هي في المسيح. فالمسيح - تبارك اسمه - يُعطينا الحريَّة لنفعل ما هو صواب، وما يُسِرُّ إلهنا.
إن علاقتنا بالمسيح تُقدِّم لنا تحريرًا من الخطية. لقد خلَّصنا من دينونة الخطية، وهذه بركة ماضية: «إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (رومية8:1). كما أن المسيح أعتقنا من عبودية الخطية وتسلُّطها علينا، وهذه بركة حاضرة: «وَأَمَّا الآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ، وَصِرْتُمْ عَبِيدًا لِلَّهِ، فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ، وَالنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (رومية6:22)، وأيضًا: «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي (أي حرَّرني) مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ» (رومية8:2). وعندنا أيضًا الرجاء والإمكانية اللازمة للهرب من الخطية المحيطة بنا بسهولة (عبرانيين12:1)، والتي لن تكون - بكل صورها - في الأبدية؛ فأورشليم السماوية: «لَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا، إِلا الْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْحَمَلِ» (رؤيا21:27)، وهذه نظرة مستقبليَّة. إذًا لنبتهج اليوم ببركات الحرية التي لنا في شخص الرب يسوع المسيح!
قارئي العزيز، لقد وافى المسيح أرضنا ليموت عوضًا عنَّا، وبذا يحررنا ويفك أغلالنا، لكي ما بالمحبة نقيِّد أنفسنا به، لنشهد بنعمته للعالم حولنا. فهل سمعتَ دعوة الصليب، وتجاوبتَ معها؟ هل سمعتَ دعوة المُخلِّص: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى11:28)؟ إن كان لا، فَصَلِّ معي: “أيها الرب يسوع، أنا أعرف أنني خاطئ وعاجز عن إنقاذ نفسي. إنني أحتاج إليك مُخلِّصًا لي. شكرًا لك على موتك عوضًا عنِّي، وعلى قيامتك حيًّا. إنني أؤمن بك. أرجو منك أن تحرِّرني من قيود الخطية، وتهبني الخلاص والحياة الأبدية والحرية. آمين!”.