ديفيد ليفِنجستون مرسل، مستكشف، محب للإنسان

هل تعرف مُكتشف بحيرة فيكتوريا حيث منابع النيل؟

هل تعرف الشخص الذي يُعزَى إليه الفضل الأكبر في أن يعرف العالم عن مجاهل قلب أفريقيا؟

هل تعرف الرجل الذي واجه أسدًا في أدغال أفريقيا وعاش؟

"هي حياة واحدة سرعان ما تمضي، ما عُمل فيها من أجل المسيح فقط يبقى"؛ هل تعرف قائل هذه العبارة؟
لقد قالها رجل عظيم وعاشها.

إذا بحثت عنه في أية موسوعة، أو إذا ذهبت إلى قبره، فستجد هناك مكتوبًا:
 
ديفيد ليفِنجستون مرسل، مستكشف، محب للإنسان
 
وُلد ديفيد ليِفنجستون يوم 9 مارس 1813 في پلانتير باسكتلندا، من أبوين “فقيرين وتقيَّين”، كما عبَّر هو شخصيًا على شاهد قبريهما.  تميزت أسرته بحب العمل الشاق والرغبة في التعلم، وكانت تتكون من الأبوين وسبعة أطفال (هو ثانيهم)، يقيمون في غرفة واحدة على سطح مبنى لسكن عُمال مصانع القطن.  لكنها كانت أسرة تمتلك «التقوى مع القناعة» فكانت تجارتهم العظيمة (1تيموثاوس6: 6).  أبوه نيل ليِفنجستون كان يبيع الشاي، متجولاً من بيت إلى بيت؛ ورغم أن هذه المهنة لم تكن تُدِر عليه ربحًا وفيرًا، لكنه كان يحبها لأنها أتاحت له الفرصة لمشاركة الآخرين بإيمانه بيسوع المُخَلِّص.

من صغر ديفيد علمه أبوه القراءة، وأحبها بسبب جده من أمه الذي كان يُعيره الكتب من مكتبته.  نادرًا ما كان ديفيد يُرَى بدون كتاب.  كان أبوه يأخذه على ركبتيه ويقرأ له قصص المُرسَلين، خاصة المُرسل الهولندي كارل جتزلاف والذي جمع بين الطب والإرسالية.  في يوم نظر ديفيد إلى عيني أبيه وقال له: هل تعلم يا أبي، في يوم ما سأكون مثل هؤلاء العظماء: مُرسَلاً، طبيببًا، خادمًا للرب.

في سن العاشرة اضطُر أن يعمل في محالج القطن.  جمع بين العمل (12 ساعة صباحًا)، والدراسة (ساعتان مساءً)، والاستذكار (ليلاً).  على أنه لم يُسمَع يومًا متذمِّرًا!  بل إنه بعدما كبر كان يذكر أتعاب هذه الفترة على أنها تدريبات كانت لازمة له.

كان يحب العلوم في زمن كانت العلوم تعتبر متعارضة مع الدين.  بالإضافة لذلك كان محبًّا للطبيعة معجَبًا بخليقة الله.

في التاسعة عشرة، اقتنع ديفيد باحتياجه الشخصي إلى مُخَلِّص وبكفاية المسيح لكل احتياجه؛ فقَبِله مُخَلِّصًا له، مُتَّخذًا قرارًا أن يسلمه حياته بالتمام.  من وقتها كان يحاول مساعدة الإرساليات بكل ما يزيد عن احتياجه الأساسي.

يومًا وهو بعد فتى غض ركع على ركبتيه وصلى للرب: “يا رب، أرسلني إلى أي مكان، فقط كن معي!  ضع أي حمل عليَّ فقط عضدني!  اقطع كل رُبط تربطني، إلا ما يربطني بقلبك وبخدمتك!”.  قام يومها من الصلاة يرن في أذنيه وعد الرب: «ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر» (متى28: 20)، وقد خصَّصه لنفسه كل أيام حياته.

بعد فترة قليلة كان في الكنيسة مع أبيه حيث قُرِئ خطاب من كارل جتزلاف، يحكي فيه عن الحاجة الماسة لمُرسَلين للصين وبصفة خاصة من الأطباء.  في طريق عودتهم طلب ديفيد، كردِّ فعل لما سمع، أن يتعلم العلوم.  فأجابه أبوه: “إن كانت العلوم ستفتح قلب الرجل الصيني، فليكن.”  وهكذا بدأ ديفيد أول خطوة في طريق أن يكون مُرسَلاً طبيبًا.

ادَّخر ديفيد كل ما أمكنه خلال 3 سنوات ليتمكن أخيرًا من الالتحاق بكلية أندرسون في جلاسجو، حيث درس الطب واليونانية.  كان مجتهدًا جدًا في دراسته، وتخرج منها سنة 1838.  ساعده أخوه چون، والذي كان يعمل هو أيضًا في محلج القطن، في مصاريف الدراسة في العام التالي.

التحق ديفيد بـ“إرسالية لندن” وهو بعد طالب.  وقد نصح الشخص الذي تولى تدريبه الإرسالية بعدم إرسال ديفيد لأنه لا يعرف أن يعظ ولم يحصل على درجات جيدة في العبرية.  لكنهم في الإرسالية طلبوا إعطاءه فرصة أفضل نظرًا لاجتهاده في الجامعة واضعين في اعتبارهم أنه لم يكن حظه كبيرًا من التعليم قبل الجامعي.  وأمام مثابرة ديفيد واجتهاده، عاد مدربه ورشَّحه لدراسة الطب!

كان كل هذا إعدادًا لديفيد ليذهب كطبيب مُرسَل إلى الصين.  وبينما هو يُعِد العُدة للإبحار إلى هناك، قامت ما بين إنجلترا والصين ما عُرف بـ“حرب الأفيون الأولى”، فقررت الإرسالية عدم إرسال مُرسَلين إلى هناك.  حاولت الإرسالية إرسال ديفيد إلى الهند الغربية ليساعد أحد المُرسَلين هناك، لكنه رغب في أن يذهب إلى حيث لم يسبقه أحد، إلى حيث لم يتمتع الناس بالبشارة ولا الرعاية الطبية.

في هذه الآونة تقابل مع “روبرت موفات”، وهو مُرسَل لجنوب أفريقيا، وكان يحكي عن احتياجات العمل هناك.  سأله عن وسط أفريقيا وإن كان هناك سكان فيها، فقال موفات: “في الصباح الجلي، يُرَى الدخان متصاعدًا من آلاف القرى التي لم يُسمَع فيها اسم المسيح مطلقًا”.  ظلت هذه العبارة ترن في أذن ديفيد فقرَّر أن يذهب إلى أفريقيا، ووافقته الإرسالية.

وفي 8 ديسمبر 1840 استقل السفينة “چورچ” إلى جنوب أفريقيا.  وعلى متنها تعلَّم من قبطانها، الكابتن “دونالدسون”، كيف يبحر ويعرف الاتجاهات من النجوم، الأمر الذي أفاده بعد ذلك كثيرًا.  بسبب العواصف والتيارات البحرية جنحت بهم السفينة إلى البرازيل حيث بقيت للإصلاح بعض الوقت.  وأخيرًا، بعد أربعة أشهر، وصل ديفيد إلى “كيب تاون” وقد بلغ الثامنة والعشرين من عمره.  وأخيرًا بعد 8 شهور من مغادرته موطنه وصل إلى “كورومان”، حيث مقر الإرسالية.  وبقي هناك يساعد باقي المُرسَلين في انتظار عودة “موفات” من الوطن.كان ديفيد توَّاقًا لأن يرتحل شمالاً حيث مئات الآلاف من الأفارقة الذين لم يسمعوا عن محبة المسيح.  كثيرًا ما ردَّد أو كتب في مذكرته هذه العبارة: “إن ذلك المنظر الساحر للدخان المتصاعد في الصباح من آلاف القرى يشعل قلبي بداخلي”.  كان يومها وسط أفريقيا غير مرصود على أية خريطة.

أخيرًا أقنع “روچر إدواردز” بالارتحال معه شمالاً للبحث عن نقطة تصلح لموقع جديد للإرسالية، وفي 24 سبتمبر 1841 بدأت رحلتهما من جنوب القارة نحو الشمال، إلى حيث لم تكن عين أورُبي قد أبصرت بعد.

كطبيب كان غرضه أن يعالج الناس من أمراضهم حتى يمكنه مشاركتهم بالإنجيل، وكمُرسَل كانت رغبته أن يجد طرقًا سهلة من الساحل إلى قلب إفريقيا حتى يتمكن مُرسَلون آخرون من أن يخدموا في “القارة المظلمة” (كما كانوا يسمون أفريقيا يومها) لينيروها بنور الإنجيل.  لذا كان يحدِّد بدقة كل مكان يصل إليه مستخدمًا ما تعلمه من قبطان السفينة.  كان يستغل كل ما تعلم، ولو أصغر الأشياء، ليتمِّم غرضه الأعظم.

ارتحل وروچرز مع اثنين من المرشدين الأفارقة، مستخدمين عربات تجرها الثيران.  مرَّ أسبوعان حتى لمحوا بوادر أول قرية.  ما أن رآهم السكان المحليون حتى أحاطوهم بالرماح وهم يتقافزون.

ما الذي حدث؟  وكيف كملت القصة؟ 

هذا هو حديثنا في العدد القادم عن هذا الرجل العظيم، فإلى لقاء إن تأنى الرب.