بينما كانت السيدة المسيحية تقوم بتوزيع النبذ على المسافرين على ظهر الباخرة حيث الوقت يمر ببطء، وهي فرصة جيدة للقراءة والتأمل؛ قدّمت نبذة لشاب كان يجلس في المقدمة، فنظر إليها باشمئزاز وقَبِل النبذة منها على مضض. وبعدما انتهت من التوزيع في مؤخر السفينة وعادت مرة أخرى لمقدمة الباخرة، فمرَّت من أمام الشاب الذي أراد استفزازها؛ فمزق النبذة أمام عينيها إلى قصاصات صغيرة وألقى بالقطع الورقية في الماء وهو ينظر إليها نظرة استهزاء ويبتسم ابتسامة السخرية. أما هي فقالت له في هدوء واتزان: “مكتوب: «الَّذِينَ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً لِلَّذِي هُوَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ أَنْ يَدِينَ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتَ» (1بطرس4: 5)”.
وصل الشاب إلى بيته ونسي كل ما حدث في الباخرة، ولكن في الليل وبينما هو يخلع ملابسه لينام لاحظ قصاصة من الورق من بقايا النبذة التي كان قد مزقها في وجه السيدة المسيحية وألقى بها في البحر، ففهم أن الريح ردت هذه القصاصة إلى حضنه مرة أخرى وظلَّت معلقة في ملابسه. ولفضوله التقط القصاصة الصغيرة وحدق النظر فيها فوجد مكتوبًا عليها كلمتين فقط هما: الله، الأبدية. فكرر القراءة: الله، الأبدية. وعندها حاول أن يتذكر الكلام الذي قالته له السيدة المسيحية، فلم يتذكر إلا كلمة «حسابًا» فدَوَّت هذه الكلمات الثلاث أمام ضميره وقلبه: الله، الأبدية، حسابًا!
كوّنت الكلمات الثلاث أمام ذهن الشاب سيناريو الأبدية بالكامل: فالله هو الديَّان وسيحاسبه على كل خطاياه وسيحتمل أجرة خطيته إلى أبد الآبدين. وعندها تذكر الشاب كل فجوره وشهواته وخطاياه التي ارتكبها وحتى نسيها. ارتسمت بالكامل في هذه اللحظة أمام عينيه، وكأن الكلمات الثلاث سحبت داخله فتيل قنبلة رعب الأبدية والدينونة، فانفجر في أعماقه شعور بالخوف الرهيب والحزن على كل ما عمله. وباطلاً حاول أن يهدئ من صوت الأبدية وخوفه من الموت طوال الليل، رغم كمية الخمور التي شربها وجرعات المخدرات التي تعاطاها، إلا إن الكلمات الثلاث ظلت تدَوِّي داخله: الله، الأبدية، حسابًا، إلى أن ركع على ركبتيه وتمتع بالسلام الكامل عند صليب الرب يسوع المسيح وسمع منه العبارة المطمئنة: «يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (مرقس2: 6).
صديقي القارئ العزيز، صديقتي القارئة العزيزة، قال الرب يسوع المسيح: «لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ» (يوحنا5: 22-24). فرغم أن الرب يسوع هو ديَّان العالم لكنه لم يأتِ إلى أرضنا ليدين كما قال: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ والَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ. وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً» (يوحنا3: 17-20).
وهذا ما ختم به الرسول بولس عظته الشهيرة في أريوس باغوس بأثينا باليونان إذ قال: «فَاللَّهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ. لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ مُقَدِّمًا لِلْجَمِيعِ إِيمَانًا إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ» (أعمال 17: 30، 31).
1- صاحب الأمر: الله، فالعقاب يكون بمقدار عظمة صاحب الأمر؛ فالعصيان ضد مدير أقل وطأة من العصيان ضد وزير، ويكون العقاب أشد إن كان العصيان لأمير، فكم يكون لو لملك أو ملك ملوك؟ «وَلَكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ» (رومية2: 5)، «مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ!» (عبرانيين10: 31)، «لأَنَّ إِلَهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ» (عبرانين12: 29).
2- ميعاد تنفيذ الأمر: الآن، «فِي وَقْتٍ مَقْبُولٍ سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ. هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ.هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (2كورنثوس6: 2)، «أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟» (رومية2: 4).
3- لمن صدر الأمر: جميع الناس، «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ» (يوحنا3: 16). «... مُخَلِّصِنَا اللهِ، الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ» (1تيموثاوس3: 4)، «يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا» (1يوحنا2: 2).
4- حدود الأمر: في كل مكان، «فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَيْنِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِينَ».(أمثال15: 3)، «لأَنَّهُ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا اسْمِي عَظِيمٌ بَيْنَ الأُمَمِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ يُقَرَّبُ لاِسْمِي بَخُورٌ وَتَقْدِمَةٌ طَاهِرَةٌ» (ملاخي1: 11)، «وَأَمَّا هُمْ (التلاميذ) فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالرَّبُّ يَعْمَلُ
مَعَهُمْ» (مرقس16: 20).
5- ماهية الأمر: أن يتوبوا، «لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ وَإِلَى إِلَهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ» (إشعياء55: 7)، «فَأَجَابَ يَسُوعُ: لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ» (لوقا5: 32)، «أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ» (لوقا13: 3).
6- تشجيع إطاعة الأمر: متغاضيًا عن أزمنة الجهل، «أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا. وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ» (1تيموثاوس1: 12)، «إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (رومية8: 1).
7- رفض الأمر: لأنه أقام يومًا هو فيه مُزمِع أن يدين المسكونة بالعدل، «ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشًا عَظِيمًا أَبْيَضَ، وَالْجَالِسَ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! وَرَأَيْتُ الأَمْوَاتَ صِغَارًا وَكِبَارًا وَاقِفِينَ أَمَامَ اللهِ» (رؤيا20: 11).
8- ديَّان رافض الأمر: برَجُل قد عيَّنه (الرب يسوع)، «لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ» (يوحنا5: 22).
9- وسيلة تحقيق الأمر: مُقدِّمًا للجميع إيمانًا (برهانًا)، «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اَللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس2: 8-10).
10- بُرهان الأمر: إذ أقامه من الأموات، «يَسُوعَ رَبَّنَا... الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رومية4: 25).
فهل تصلي مع هذا الشاب ومعي؟
صلاة: أيها الرب الديَّان.. كم أنت طيب وحنَّان.. لهذا صُلِبت لأجلي واحتملت الهوان.. فارحمني وأعطني عطية الغفران.. فلا آتي إلى دينونة أو أحزان! آمينٍ!