قرأت كتابًا عن سهام إبليس الملتهبة التي يصوِّبها دائمًا، وبدقة شديدة، نحو عقولنا؛ كي يشوِّش أفكارنا من نحو الله ونحو أنفسنا أيضًا.  لأنه كما نتعلم من كلمة الله أن أرض المعركة في حربنا الروحية مع الشيطان تكون في الفكر: «إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ.  هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس10: 8).  وهذا عين ما نراه منذ أول جولة للشيطان مع الإنسان، حيث بدأ الشيطان مُمَثَلاً في الحيَّة يُلقي ببذار الشك في عقل حواء وكانت البداية بهذه العبارة: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» (تكوين3: 1).  ولا تزال الحرب قائمة مع الشيطان على ذات المنوال وعلى نفس أرض المعركة: الفكر.

لكن ما استوقفني في ذلك الكتاب الذي قرأته هو أنه في إحدى فصول الكتاب تكلمت الكاتبة عن كلمتين شهيرتين يستغلهما الشيطان في حربه معنا على الدوام.  ولما فكرت في الأمر، وجدت أنهما بالفعل كلمتان قد دسَّهما الشيطان في قاموسنا، وألقى بهما في عقولنا، ورسخهما داخل أعماقنا.  بل وأصبحتا تجريان على ألسنتنا في كل موقف وأمام كل حدثٍ. وقد يمتد تأثير الكلمتين علينا ليس فقط كأية كلمات تُقال بل قد تُعطِّلنا هاتان الكلمتان كثيرًا عن التقدم والنمو في الحياة الروحية.

لهذا قررت أن أشاركك ببعض الأفكار التي جاءتني بخصوص هذا الأمر، تأثرًا مني بما قرأته.

الكلمتان اللتان يستخدمهما الشيطان معنا هما عنوان هذا المقال: “ماذا لو؟”.  ويستغلهما الشيطان جيدًا كي يزرع في داخل قلوبنا الخوف والرهبة والحيرة من المستقبل: ماذا لو لم أنجح هذا العام؟  ماذا لو لم أجد فرصة عمل؟  ماذا لو لم أجد المال الكافي؟  ماذا لو أصابني ذلك المرض الخطير؟  ماذا لو مات فلان؟  ماذا لو لم أعِش حتى نهاية هذا العام؟  ماذا لو فشلت في هذه المقابلة؟  ماذا لو لم يقبلوني في هذه الشركة؟  ماذا لو لم أتزوج؟  ماذا لو...؟ إلخ.

ألم تراودك هذه المخاوف كثيرًا؟  ألم تؤرقك هذه الأسئلة أيامًا؟  أخي الحبيب إنها حرب فكرية كي لا تستمتع بيومك مع المسيح؛ فالشيطان، لكي لا يجعلك تمارس الإيمان في يومك الحاضر، يشغلك بمخاوف المستقبل.

هل تذكر قصة المَن التي وردت في سفر الخروج والأصحاح السادس عشر؟  لقد ذكر الكتاب أمرًا في غاية الأهمية حيث أمر موسى الشعب، بناءً على أمر الله له، أن يأخذ كل واحد من المَن بحسب أكله وأن لا يبقوا منه إلى الصباح.  لكن الكتاب يقول: «لكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا لِمُوسَى، بَلْ أَبْقَى مِنْهُ أُنَاسٌ إِلَى الصَّبَاحِ، فَتَوَلَّدَ فِيهِ دُودٌ وَأَنْتَنَ» (خروج16: 20).  أعتقد، أخي الحبيب، أن سبب المشكلة أن هؤلاء الذين أبقوا مِن المَن إلى الصباح قالوا في قلوبهم: “ماذا لو لم يأتِ المَن غدًا؟”، “ماذا لو لم أستطِع اللحاق غدًا بالكمية التي تكفيني؟”  وهكذا كانت هذه المخاوف سبب سخط موسى عليهم، وعدم تمتعهم بفرحة الثقة والإيمان في الإله القدير.

هل تعرف، عزيزي، أن نفس هاتين الكلمتين كادتا أن تمنعا موسى من الخضوع لله وإنقاذ شعب الله من العبودية؟  فحينما دعاه الله وأمره بالذهاب إلى مصر لإنقاذ شعب إسرائيل قال: «وَلكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ: لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ» (خروج4: 1).  والآية تأتي في بعض الترجمات: “ماذا لو لم يصدقونني؟”.  كان الله يؤكد لموسى أنه سيفعل ذلك، لكن موسى لم يكن يصدق.  ويا له من موقف مؤسف!  لكن دعنا لا نتعجب، صديقي، فنحن كثيرًا ما نمتنع عن خدمة الرب وإكرامه بسبب هاتين الكلمتين!  وكثيرًا ما تتسبب هاتان الكلمتان في تعطلنا وتوقفنا وحرماننا من أمور عظيمة قد أعدها الله لنا كي نكرمه من خلالها!  قد تأتيك الهواجس: ماذا لو فشلت في هذه الخدمة؟  ماذا لو لم يقبلوني معهم؟  ماذا لو أصابني الخجل؟  وتظل سنين طويلة حبيسًا في زنزانة مظلمة ذات قضبانٍ زائفةٍ عنوانها من الخارج: “ماذا لو؟”.


وكما قال أحدهم: “لن تستريح إذا عشتَ على ذكريات الماضي، ولن تهنأ إذا انشغلت بأمور المستقبل؛ لأن راحتك الحقيقية هي في ممارسة الإيمان في يومك الحاضر”.

أود، صديقي الحبيب، أن نلغي من قاموسنا عبارة: “ماذا لو؟”، ونقضي معًا على كل ما يخيفنا من أمور قد لا تحدث على الإطلاق بل هي مجرد مخاوف زائفة يقضي بها الشيطان على تمتعنا بالشركة مع إلهنا الصالح المُحب.  ولاتنسَ، أخي الحبيب، أن مشغوليتك بالغد ستسرق منك متعة اليوم.  إن هذه هي أحد أنواع الظنون التي هي ضد معرفة الله (2كورنثوس10: 5).  كما أن الكتاب يعلِّمنا أن نتكل على الله دون الاعتماد على فهمنا البشري الضعيف (أمثال3: 5).  لذا لا تحاول، أخي الحبيب، عقلنة  الأمور ولا تشغل بالك بما لم يحدث بعد!  هذا بالطبع لا يلغي التفكير واستخدام العقل، لكن هناك فرقًا كبيرًا بين التفكير في هدوء ورويّة بين يدي الله القدير، وبين المحاولات المستميتة لفهم وإدراك الأمور، بل وأحيانًا نحاول التدخل بمجهودنا البشري كي نحاول منع أمرٍ يخيفنا ولم يحدث بعد!  كم نعلن بقولنا: “ماذا لو؟” عن شكوكٍ في صلاح الله وأمانته طوال الرحلة!  وكم تحزن قلوبنا أيامًا بل وشهورًا وقد تصل لسنين بسبب ما ترسخ في عقولنا من أوهام بلا أساس!  الكتاب لا يعلمنا أن نغلف شكوكنا ومخاوفنا وترددنا بغلاف عنوانه: “ماذا لو؟”، لكنه يعلمنا أن نتكلم دائمًا بيقين وإيمان في إلهنا الصالح المُحب، وأن يكون هذا الإيمان قد ملأ قلوبنا قبل أن ننطق به بألسنتنا.  هل تعرف ما هي لغة المؤمن الحقيقي؟  إنها اللغة التي استخدمها الرسول بولس في كتاباته حيث قال يومًا: «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رومية8: 28).  فلنجعل لغتنا هي لغة الإيمان والثقة وفيما يخص الغد!  فلنُلقِ بحمل الغد على مَن يحمل الغد ونثق بأنه هو يعتني بنا (1بطرس5: 7)!