ديفيد ليفِنجستون مرسل، مستكشف، محب للإنسان 2
مرسل، مستكشف، محب للإنسان (2)
ما أن وصل ديفيد ورفقاؤه إلى قبيلة أفريقية حتى وجدوا أنفسهم مُحاطين بأفارقة مدجَّجين بالرماح يتقافزون حولهم. سُرعان ما قادوهم إلى رئيس قبيلة “الباكونا” في قرية “موباستا”. هناك ابتدأ ديفيد يقدِّم خدمات طبية للمحليين. تكررت زياراته لموباستا حتى أصبحت مركزًا لإرساليته واستقر فيها.
مرة وهو عائد إلى المقر مع “مبالو” (أحد رفقاء الخدمة الأفارقة) صادفهما أسد ضخم، قفز على ليِنجستون، وأطبق بفمه على ذراعه الأيسر، ثم رفعه لفوق مُعَلِّقًا إياه في الهواء. استطاع مبالو أن يطلق الرصاص على الأسد، فترك ديفيد ليسقط على الأرض، وهاجم مبالو. سريعًا تجمع سكان القبيلة وتمكنوا من طعن الأسد بالرماح حتى مات. نقلوا ديفيد إلى المقر مغشيًّا عليه، وعندما أفاق كان أول شيء سأل عليه هو مبالو، وهدأ لما عرف أنه بخير. وابتدأ يرشد زميله ماذا يفعل ليجد الكسور في ذراعه ويعيد تجميع العظام. لم يُشفَ هذا الذراع تمامًا، بل بقي باقي عمره بلا نفع. لم يهتم كثيرًا بهذا الأمر، ومن ضمن السطور التي كتبها لأبيه بهذا الصدد قال: “... ينبغي لي أن أشكر الله الذي أنقذني من هذا الخطر العظيم، وأرجو ألا أنسى نعمته أبدًا. وأتمنى ياأبي ألا تأسف على ما حدث لي... ولا تخبر أحدًا عن هذا”.
في 1845 تزوج ديفيد من ماري موفات، البنت الكبرى لروبرت موفات، والتي كانت تشعر بالألفة والراحة وسط أحراش أفريقيا التي وُلدت فيها أكثر من صالونات أوروبا. فكانت خير مُعين لدييد. بعد الزواج، تحرّكوا لتأسيس إرسالية أخرى في عمق القارة. كانت الحياة هناك صعبة في طبيعتها، لكن التقدم الروحي كان عظيمًا. ابتدأ ديفيد يتعلم لهجة “البانتو” التي تتحدثها قبائل “الباكونا” و”الباكوين”. ونشأت صداقة بينه ورئيس في قبلية الباكوين اسمه “سيشيلي”، والذي استمع إلى وعظ ديفيد كثيرًا، وأخيرًا طلب الرب مُخَلِّصًا. وفي يوم سأل سيشيلي ديفيد سؤالاً لم يجد إجابة له: “إذا كانت معرفة الناس بالإنجيل مهمة بهذا المقدار، فلماذا مَرَّ كل هذا الزمان دون أن يأتي الأوروبيون ليخبروا الأفارقة؟” ولعل هذا السؤال لجميع مَن آمنوا بالمسيح.
واحد من التحديات الكبيرة لديفيد كان “البور Boer” وهم أناس من أصول أوروبية مستوطنون في جنوب أفريقيا، كانوا يعملون في تجارة العبيد من الأفارقة. وقد قاومهم ديفيد بشدة، ونجح إلى حد كبير لمدة طويلة من حياته. بسبب الجفاف اضطر آل ليِنجستون مع قبيلة الباكوين أن يرتحلوا حتى وصلوا كولوبنج بالقرب من نهر، وهناك واجه ديفيد مقاومة أعنف من البور. ومن هناك قرر أن يبدأ استكشاف طرق عبر صحراء كلهاري. كان يريد أن يقود الباكوين بعيدًا عن مَنال البور.
استمر ديفيد في خوض المجهول مُستكشِفًا أفريقيا بغرض أن يرسم طريقًا يسهِّل مهمة آخرين ليحملوا الإنجيل لها. وكانت مقولته الشهيرة: “أنا مستعد للذهاب إلى أي مكان بشرط أن يكون إلى الأمام”.
كانوا يستخدمون مرشدين أفارقة في رحلاتهم، أتاههم أحدهم عمدًا بعيدًا عن مصادر المياه. وفجأة وجدوا أنفسهم في عمق الصحراء يموتون من العطش. لكنهم صلُّوا، فأرسل الله إلى طريقهم امرأة من الغابة لتقودهم إلى مصدر مياه. وهكذا تم اكتشاف نهر “زوجا” سنة 1849. وبعد شهر اكتشفوا بحيرة “نجامي”. بعد عامين وقف على شواطئ نهر “الزامبيزي” ليكون أول أبيض يشاهد هذه المنطقة.
كانت أسرة ديفيد ترافقه كل رحلاته، وبدأت صحة أفراد الأسرة تضعف بسبب الملاريا والسفر المستمر؛ فقرَّر أن يرسل زوجته وأطفاله الأربعة إلى اسكتلندا، واعدًا إياهم أن يلاقيهم في خلال عامين. وبينما هو يودِّعهم إلى السفينة جاءته أخبار بهجوم البور على مقر الإرسالية واستيلائهم على كل ما يخص ديفيد من كتب ومعدات طبية، والأخطر من ذلك أنهم أسروا مئات من الباكوين كعبيد، وقتلوا آخرين، وتمكن سيشيلي من الهروب مع الباقين. لم ييأس ديفيد وقرر الاستمرار.
في مايو 1854، كان ديفيد قد قطع مسافة 2000 ميل من جنوب أفريقيا مرورًا بصحراء كلهاري وحتى الشاطئ الغربي لأفريقيا، حيث عرضت عليه إحدى السفن اصطحابه مجانًا إلى بلاده، لكنه رفض لأنه كان يعتبر نفسه مسؤولاً عن مرافقيه الأفارقة وقد وعد رئيس قبيلتهم بأن يعودوا سالمين، فاكتفى بإرسال بعض الخطابات والوثائق الثمينة معهم. على أن السفينة غرقت فتألم جدًّا على أنفس الذين غرقوا.
استمر ديفيد في رحلاته، وأخيرًا وصل إلى “الدخان الذي يرعد” (على حد تعبير الأفارقة)، حيث وقف وسط جزيرة في النهر ونقش الأحرف الأولى من اسمه على شجرة كبيرة، وهو يشاهد شلالات فيكتوريا. في مايو 1856 وصل إلى الشاطئ الشرقي لأفريقيا إثر تتبعه لنهر الزمبيزي. من هناك كتب للإرسالية في لندن أنه أخيرًا قد وجد طريقًا يصل المُرسَلين إلى أعماق أفريقيا، حيث توجد مواقع كثيرة يمكن أن يُعلَن فيها الإنجيل.
أخيرًا، عاد ديفيد إلى اسكتلندا ليرى عائلته، بعد قرابة 5 سنوات من الفراق. بينما هو في طريقه إلى هناك وصله خبر وفاة والده فتألم لذلك كثيرًا. لما وصل للبيت لم تعرفه زوجته للوهلة الأولى، فقد أحرقته شمس أفريقيا وأوهنت الرحلات قواه.
وهو في الوطن، طُلِب منه أن يُلقي محاضرات عن رحلاته إلى أفريقيا. وكانت مقولته الشهيرة: “أنا أقوم بواجبي كمُرسَل في فتح أفريقيا لمحبة المسيح”. وهناك حرَّض كثيرين على إطاعة دعوة الله بالذهاب إلى أفريقيا، وكتب كتابًا عنوانه “رحلات مُرسَل وأبحاثه في أفريقيا”. طلبت الملكة فيكتوريا مقابلته شخصيًّا، كما نال الميدالية الذهبية من الجمعية الملكية الجغرافية لمجهوداته الاستكشافية، وعرضت عليه الحكومة أن يعمل مُستكشِفًا.
في سنة 1858، ولهيب محبته للأفارقة يشعل قلبه، عاد ديفيد وزوجته ماري وابنهما “زوجا” إلى أفريقيا. بمجرد عودته واصل جهوده الاستكشافية لفتح الطريق أكثر للمُرسَلين.
بعد أربعة سنوات من عودتهم، مرضت ماري زوجته بشدة من الملاريا، ولم يستغرق الأمر سوى أسبوع واحد حتى انطلقت لتكون مع المسيح عن 41 سنة. كتب يومها ديفيد في مذكرته: “أول ضربة من العيار الثقيل أتلقاها في حياتي، لقد أوهنت قواي... لقد أحببت ماري يوم تزوجنا، وكلما عشنا معًا كلما أحببتها أكثر”. وهو يدفن زوجته رفع عينيه إلى السماء وقال: “يا رب يسوع، يا ملكي، يا حياتي يا كل شيء لي؛ أعيد تكريسي لك، لن أقيِّم أي شيء إلا في ضوء ملكوتك وخدمتك”. مرة أخرى سمع الوعد: «ها أنا معكم كل الأيام...».
بعد عامين من وفاة زوجته عاد إلى اسكتلندا ليفتقد أولاده. وهناك كتب كتابًا آخر عن نهر الزامبيزي، وألقى محاضرات عن الاحتياج لتجارة قانونية مع أفريقيا للقضاء على تجارة العبيد. ماتت أمه وهو هناك ووصله خبر موت ابنه الأكبر روبرت في الحرب الأمريكية. وفي 1865 غادر بريطانيا للمرة الأخيرة.
أثناء رحلته الاستكشافية الجديدة أصيب بانتكاسة شديدة من الملاريا. وسُرِق صندوق الدواء الخاص به، فشعر أنها مسألة وقت حتى يستسلم للمرض. اللصوص الذين سرقوا الدواء استخدموه ليشيعوا أن ليِنجستون قد مات. جرت محاولات للبحث عنه وفشلت، لكن بعض الأدلة كانت تقول إنه حي. ويومها صلَّى وكانت واحدة من المَرَّات القليلة التي صلى فيها من أجل نفسه: “يا رب أنت قلتَ لي: «ها أنا معكم...»، وأنت تعلم أنني أحتاج لهذا الدواء”.
لم يمر وقت إلا وفوجئ بشخص أبيض يلقاه يُدعَى هنري مورتون ستانلي، قال له إنه صحفي وقد أتى ليبحث عنه بتكليف من صحيفته، وأضاف: “لكن أولاً دعني أعرفك شيئين عني: أولاً، أنا أكبر مُلحد على وجه الأرض، ولا تحاول أن تغيِّر مني. ثانيًا، أحدهم أرسل لك هذا الدواء”. تناول ديفيد الدواء شاكرًا الرب. واستكمل رحلاته مصطحبًا ستانلي، والذي بعد 4 شهور من هذا التاريخ ركع على أرض أفريقيا وسلَّم حياته للمسيح! وكتب بعد ذلك أهم كتاب عن حياة ليِنجستون. ترك ستانلي ليِنجستون بعد أن حمَّله مذكرات وخطابات. وكان آخر رجل أبيض يراه.
ضعفت قوى دييد، ولم يتراجع بل استمر يخدم، حتى اضطر رفقاؤه أن يحملوه من قرية لقرية ليعظ. كان يستمر واعظًا حتى تخور قواه تمامًا فيطلب أن يعود لبيته ليستريح قليلاً، وقبل أن ينام يطلب مساعدة ليركع على ركبتيه ويصلّى لفترة طويلة ثم ينام. كان يرد على أية محاولة لإقناعه بالكف عن العمل: “الموت فقط هو الذي سينهي مجهوداتي”.
في ليلة 30 أبريل 1873، ركع ديفيد ليِنجستون بجوار سريره، وأطبق يديه في صلاة كعادته. بعد فترة دخل واحد يراه، فقالوا له: “انتظر فهو يصلى”. وفي الغد كان ديفيد قد فارق أرض العناء ليكون مع سيده الذي أحبه وخدمه. مات وهو يصلي، مات بنفس الطريقة التي عاش بها: في محضر الرب.
كانت آخر كلمات كتبها ديفيد هي: “كل ما يمكنني أن أضيفه في وحدتي هنا هو: لتحل بركات السماء على كل من يساعد في إبراء جروح هذه البقعة من العالم”.
أراد الأفارقة أن يُدفَن ديفيد في أفريقيا، لكن أصرَّت الحكومة البريطانية على عودة جسده ليُدفَن هناك. فنزع الأفارقة قلب ليِنجستون ليدفنوه تحت إحدى أشجار أفريقيا قائلين: “يمكنكم أن تأخذوا جسده، لكن قلبه يخص أفريقيا”. حمله رفقاؤه الأفارقة لمسافة أكثر من 1700 كم عبر الصحاري والأدغال ومناطق الحرب، ليصلوا به إلى الميناء الذي منه غادر جثمان ديفيد أفريقيا. كان كسر عظام ذراعة اليسرى الذي سبَّبه الأسد منذ 30 سنة هو العلامة الأكيدة أن هذا هو جسد ديفيد ليِنجستون. بعد قرابة العام من وفاته، وصل جثمانه إلى كاتدرائية وستمنستر حيث دُفن مع العظماء. وكُتب على قبره: “هنا يرقد مطمئنًّا، بعد أن أحضرته أيدي المحبين الأمناء عبر الأراضي والبحار: ديفيد ليِنجستون؛ المُرسَل، المستكشف، محب الإنسان... لمدة 30 عامًا أنفق حياته بلا كلل في تبشير الأفارقة، وفي استكشاف أسرار القارة، وفي مقاومة تجارة العبيد وسط أفريقيا”.
في ذكرى 100 عام على ميلاد ديفيد ليِنجستون، قيل عنه: “كمُرسَل كانت له غيرة عظيمة لخدمة الله. وكمستكشف كان خادمًا لا يكل للعِلْم. وكمكافح للعبودية خدم الإنسانية بالتهاب”. وإن كانت الجزئيتان الثانية والثالثة من هذه العبارة عظيمتين، إلا إنك لابُد وأن توافقني أن الأولى هي الأبقى وكانت هي الهدف الحقيقي لحياة ديفيد ليِنجستون، الذي عاش في الأساس ليخدم السيد، فنجح في كل شيء.
ولا يمكنني أن أختم قصة ذلك البطل إلا باقتباس من أقواله: “الناس يتحدثون عن تضحياتي في أفريقيا! وهل تُقَارَن تلك التي يدعونها تضحيات بما ينبغي أن أردَّه لله وفاءً للدين الكبير الذي لا يمكن أن يُرَد؟”.
ليتنا نتعلم الدرس!