أتعلَّم المسيح أغفر وسامح
روى أحد خدام الرب هذه القصة:
في عام 2002 كنت في چاكرتا للخدمة في مؤتمر لدراسة الكتاب المقدس. وفي الليلة الأولى، ذهبتُ باكرًا إلى مقر الكنيسة المُضيفة، وعرض عليَّ أحد خدّام الكنيسة أن أصحبه في جولة في أجزاء المبنى. وقد ترك لديَّ جمال المبنى انطباعًا إيجابيًّا عميقًا.
ثم اصطحبني الخادم إلى قاعة الاجتماع السفلى، وكان في مقدمة القاعة منبر، وراءه جدار أسمنتي مُسطَّح، تُرك بغير طلاء، رغم أن عليه آثار حريق قديم. ومُعلَّق على هذا الحائط صليب خشبي، وتحت الصليب كلمات باللغة الإندونيسية. ولما سألته عما هو مكتوب، فاجأني باقتباس كلام الرب يسوع المسيح على الصليب: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا23: 34).
وسألته: هل الآية مكتوبة لسبب خاص، فقال إنه قبل بضع سنين حصل في المدينة شغب إرهابي خطير، حتى إنه في يومٍ واحدٍ أُحرقت إحدى وعشرون كنيسة إحراقًا سوَّاها بالأرض، وكان ذلك الجدار كلَّ ما بقي من مبناهم السابق، وهو أوَّل مبنى كنسي تمَّ إضرام النار فيه. وهكذا شكَّل الجدار والآية تذكيرًا بالغفران والحنو الذي أبداه المسيح على الصليب، وغَدَت تلك رسالة الكنيسة إلى أهل المدينة. فالانتقام والمرارة لن يكونا البتَّة استجابة شافية لحقد العالم الهالك وسخطه. غير أن غفران المسيح وحنُّوه هو الردُّ الشافي، تمامًا كما كان منذ ألفي سنة!
«يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ».. هذه هي العبارة الأولى التي نطق بها سَيِّدنا المعبود مِنْ على الصليب. نطق بها - تبارك اسمه - في الوقت الذي كان يقوم فيه العسكر الرومان بعملية الصلب؛ يدقون المسامير المُرعبة في يديه ورجليه. لقد كانت لحظات عذاب جسدي ونفسي أليم يفوق الوصف، ومع هذا لم ينطق بكلمة لعن على هؤلاء المتسببين في هذا الألم المُبرح، بل بهدوء صلى لأجل قاتليه عديمي الرحمة: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ». فيا للكمال! ويا للجمال! ويا للسمو!
إن الرقة والمحبة وهدوء النفس التي بَدَت من المسيح لَهي صفات تناقض، بكيفية عجيبة، القسوة والكراهية اللتين كانتا في قاتليه، وهي تقدِّم لإيماننا صورة للمحبة الكاملة التي تُشرق على كل العصور وإلى الأبد.
«لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ».. هذا العذر السامي الذي أعطاه المُخَلِّص لهم عن جراحاته المؤلمة وأعمال القسوة المُخزية التي عملها معه أعداؤه، بلا ضمير ولا إحساس، وكأنهم عطاش إلى الدماء، ومُجرَّدون من كل شرف وشعور. هذا العُذر السامي يُظهر لنا واحدة من صفات سَيِّدنا العجيبة التي ظهرت طوال حياته في وسط البشر. وبحق فهذا الإنسان العظيم هو القدوس البار الكامل، منبع كل نعمة وصلاح؛ الله الظاهر في الجسد.
إنه في اللحظة التي بدأ فيها الدم الكريم يسيل، بدأت أيضًا الشفاعة في المذنبين الخطاة. لقد كانت هذه الطلبة مُقَدَّمة أولاً لأجل الجنود الوثنيين الجهلاء الذين كانوا يُنفذون أمر رؤسائهم، ولكنها لم تكن لأجل هؤلاء فقط؛ إنها بكل تأكيد اتسعت وشملت جميع مَنْ كان لهم يد في الحُكم على المسيح وصلبه. كانت لأجل رؤساء اليهود والشعب الذين رفضوا مَسِيَّاهم. ألا يجوز لنا أن نقول إن كثيرين من الذين تابوا في يوم الخمسين وبعده قد غُفرت لهم خطاياهم وخَلُصوا لأن الرب يسوع المسيح على الصليب قد شفع فيهم؟ نقول أيضًا إن هذه الصلاة قد تعدت أولئك الذين كان لهم نصيب مباشر، إذ رأى الرب يسوع من فوق الصليب العالم الهالك إلى النهاية.
ثم إن كلمات الرب يسوع هذه تُعلِّمنا درسًا عظيمًا في الغفران المسيحي. لقد صلى لأجل قاتليه، فيجب أن نصلي نحن لأجل المُسيئين إلينا (متى5: 44). ولقد ترك لنا المسيح بالحقيقة مثالاً لكي نتبع خطواته (1بطرس2: 21).
تُوجد أشجار تغمر الفأس التي تضرّ بها وتضرِبها بعصير ذي رائحة زكية، وهكذا يجب أن يكون الحال مع شعب المسيح. فبدلاً من الغضب ومقابلة الإساءة بمثلها، يجب علينا أن نُظهر المحبة الحقيقية والروح الطيبة، لمن يُوقع الضرر بنا.
هكذا فعل استفانوس، الشاهد الأمين للمسيح، الذي رُجم حتى الموت بعد أن أدَّى الشهادة للبار القدوس، وقد ترك لنا مثالاً مؤثرًا، إذ قبل تسليم روحه إلى المسيح «صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ» (أعمال7: 60)، وكلماته هذه تذكِّرنا بكلمات الرب يسوع: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ».
وشاول الطرسوسي، الذي أصبح أخيرًا الرسول بولس، كان يضطهد المسيحية، وكان حاضرًا مشهد استشهاد استفانوس و«رَاضِيًا بِقَتْلِهِ» (أعمال 8: 1)، كتب فيما بعد ذاكرًا كيف كان «قَبْلاً مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا»، ويقول: «وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ... لَكِنَّنِي لِهَذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (1تيموثاوس1: 13-16).
لقد التمس الله العذر لشاول ورحمه، فصار لا مؤمنًا حقيقيًّا فحسب، ولكن مثالاً عظيمًا للأمانة المسيحية. وإن النطق الأوَّل العظيم للرب يسوع على الصليب، والطريقة الجميلة التي شابهه فيها استفانوس، بقيت مغروسة في نفس بولس حتى نهاية شهادته، ورسالته الأخيرة تحوي هذه الكلمات التي تذكرنا بكلمات الرب يسوع على الصليب وكلمات استفانوس عند رجمه: «فِي احْتِجَاجِي الأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ» (2تيموثاوس4: 16).
وهذا هو الأساس العظيم الذي يبني عليه الرسول بولس تعليمه في رسالة كولوسي، حيث يُعدد لنا سبع صفات للمسيح يجب أن تنعكس في حياة كل مؤمن هنا على الأرض: «أحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هَكَذَا أنْتُمْ أيْضًا» (كولوسي3: 12، 13).
عزيزي، ما أحوجنا إلى غفران المسيح وحنُّوه لشفاء أنفسنا من المرارة والرغبة في الانتقام، ولشفاء جراح الآخرين وقساوة قلوبهم!