يوحنا المعمدان

لم يحظَ أحد بشهادة من المسيح مثلما حظي يوحنا المعمدان!  «لأني أقول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان» (لوقا7: 28). تُرى لماذا هذه الشهادة؟  وما هو سِرّ هذه العظمة؟

نشأته:

تربّى يوحنا في بيت تقي ترك فيه أعمق الأثر؛ فقد قيل عن زكريا وأليصابات: «كان كلاهما بارين أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم» (لوقا1: 6).  هذان الوالدان عاشا حياة التقوى الحقيقية في زمن رديء وشرير، وكانت حياتهما شهادة قوية ضد العصر الذي يعيشان فيه.  وبلا شك أن يوحنا تشرَّب من روحهما، لذا عاش حياته شاهدًا بقوة ضد الفساد المحيط به.

والكتاب لا يذكر عن الثلاثين السنة الأولى من حياته سوى عبارة واحدة: «أما الصبي فكان ينمو ويتقوى بالروح، وكان في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل» (لوقا1: 80).

هل كان لوجوده في البراري أثر على حياته وخدمته؟  بلا شك!  فمن أين تعلم البساطة التامة في الطعام والثياب؟  إذ كان يلبس وَبَر إلابل ومَنْطَقَة من جلد على حقوية ويأكل جرادًا وعسلاً بريًّا.  لقد حرَّرته حياة العزلة والاختلاء مع الله فترات طويلة من كل إغراء أو خوف، وأعطته جرأة فائقة في خدمته.

شجاعته:

تميَّز يوحنا بشجاعة نادرة، ففي خدمته لم يتملق أحدًا؛ كبيرًا أو صغيرًا، كما سنرى.  أتى إليه كثيرون من الفريسيين والصدوقيين ليعتمدوا منه، فإذ به يواجههم بالقول: «يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟».  لقد لاحظ أن ليس قلوب الجميع مستقيمة، إذ كان بعضهم مرائين يتظاهرون بالتوبة دون رغبة حقيقية في تغيير المسار، لذا طالبهم أن يظهروا ثمار التوبة وحذَّرهم من خداع الادعاء الديني: «ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم» (متى3: 7-9).  وهذا ما حدث فعلاً إذ نحَّاهم الله جانبًا وأقام الأمم بدلاً منهم.

أما عن شجاعته مع هيرودس الملك فلم تكن أقل، فلسبب فساد هيرودس اتَّخذ هيروديا امرأة فيلبس أخيه زوجة له، ناهيك عن شروره الكثيرة التي كان يفعلها.  وكان يوحنا يواجهه كالأسد ويزأر في وجهه: «لا يحل أن تكون لك!» (مرقس6: 18).  يا للروعة!  يا للأمانة!

شهادة يوحنا للمسيح:

كان يوحنا يدرك تمامًا أنه مُرسَل لخدمة خاصة وهو الذي تنبأ عنه ملاخي: «هأنذا أرسل ملاكي فيهيِّئ الطريق أمامي» (ملاخي3: 1).  لذا قال للجموع: «أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه.  هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» (لوقا3: 16).

أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه: "من أنت؟"  فكانت إجابته: «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» مُقتَبِسًا ما جاء عنه في نبوَّة إشعياء4: 3.
لم يرَ في نفسه أكثر من مجرد صوت لصارخ في البرية، لم يلفت النظر لنفسه أو خدمته التي كانت قد هزت أرجاء البلاد كلها.

لما رأى المسيح مقبلاً إليه قال: «هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم»، ولما رأه ماشيًا بعد ذلك قال: «هوذا حمل الله» (يوحنا1:29، 36).  وسمعه اثنان من تلاميذه، فتبعا يسوع وتركاه.  بحسب الظاهر خسر يوحنا تلميذين لكنه سُرَّ برؤيتهما يتبعان يسوع.  وفي مناسبة أخرى جاء إليه بعض تلاميذه وبعض اليهود وأخبروه أن المسيح يعمِّد وأن الجميع يأتون إليه.  ترُى كيف كان رد فعله؟  إن كلماته التالية تكشف عمَّا كان في قلبه نحو المسيح: «لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطي من السماء.  من له العروس فهو العريس.  وأما صديق العريس، الذي يقف ويسمعه، فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس.  إذا فرحي هذا قد كمل.  ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يوحنا3: 27-30).

شك يوحنا:

ألقى هيرودس يوحنا في السجن لسبب توبيخه إياه على شروره الكثيرة، حيث بقي يوحنا شهورًا عديدة هناك، وفي أعماق السجن كانت انتظاراته مُعَلَّقة على المسيح لينقذه مما هو فيه، وطال الزمان دون أن تظهر أدنى بادرة لنجاته؛ فأرسل إلى السيد اثنين من تلاميذه قائلاً: «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» (متى 11).  لقد تعرضت نفسه لغيمة كثيفة من الشك، وربما نتساءل: هل من الممكن لبطل مثل يوحنا المعمدان أن يجتاز في مثل هذه الحالة؟  نعم!  لقد تعرض إيليا قبله للشك، وتعرض بطرس بعده.  إنها صورة لنا نحن الذين نتعرض كثيرًا للشك رغم كل ما يعمله الرب معنا من معجزات كثيرة. 

لكن لماذا نتعرض للشك؟ 

أولاً: لسبب الطبيعة البشرية الضعيفة التي تلازمنا جميعًا. 

وثانيًا: لهجمات الشرير الشديدة على أذهاننا. 

لكن ربما السبب الرئيسي في يوحنا أنه كان يتوقع تدخُّل المسيح لينقذه ويخلِّصه ويعدل الأوضاع المقلوبة، إذ كيف يتركه هو يعاني الألم في سجنه بينما هيرودس مستمر في فجوره وشره؟  إنه ذاك السؤال الذي حيَّر الأتقياء في كل العصور: لماذا يبدو الله صامتًا عندما يُظلَم الأتقياء ويتألمون؟  لم يأتِ الوقت بعد الذي فيه سيقوم الرب ليعدل الأوضاع وينقذ المظلومين ويخلِّص المساكين!

إلا إن السيد لم تتغير نظرته لعبده رغم شكه وضعفه، فشهد عنه أروع شهادة في ذلك الوقت: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟  أ قصبة تحركها الريح؟!  بل ماذا خرجتم لتنظروا؟  أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة.  بل ماذا خرجتم لتنظروا، أ نبيًا؟  نعم أقول لكم، وأفضل من نبي» (لوقا7: 24-26).

بحق ما أعظمه خادم!

                                       ليتنا نتعلم شيئًا من صفاته!