ينبغي..وينبغي..وينبغي..

(يوحنا3: 7، 14، 30)

«يَنْبَغِي»: كلمة صغيرة، ولكنها ذات عمق شديد وقوة أدبية عظيمة، فهي تحدِّثنا عن ما هو حتمي وضروري ولا يمكن الاستغناء عنه.  وقد وردت هذه الكلمة 76 مرة في الترجمة العربية للعهد الجديد.  والآيات التي وردت فيها هذه الكلمة تستحق أن نتأملها بوعي وانتباه، لأنها تحوي كثيرًا من الحقائق الإنجيلية الثمينة للغاية.

وفي يوحنا3، نلاحظ الآيات الثلاث التي تتصدرها الكلمة «يَنْبَغِي»:

  1. بالنسبة إلى الإنسان الخاطئ، وحتمية الولادة من فوق (ع7).
  2. بالنسبة إلى الرب يسوع مُخَلِّصنا، وحتمية موته على الصليب (ع14).
  3. بالنسبة إلى المؤمن، وحتمية التكريس القلبي الحقيقي للمسيح (ع30).

فأولاً: نحن نقرأ قول الرب يسوع لنِيقُودِيمُوس: «يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ» (ع7).  وهنا تُشير كلمة «يَنْبَغِي» إلى حاجة الإنسان إلى الحصول على حياة جديدة وطبيعة جديدة، وهي صحيحة بالنسبة إلى البشر عمومًا.  قد توجد فوارق كثيرة وعظيمة في الحالات الاجتماعية والأدبية، ولكن سواء كان الإنسان متدينًا أو شريرًا كما يقول الناس، فإنه في الحالتين في حاجة ماسة لأن يُولَد ثانية.  وإن لم يُولَد الإنسان ثانية فليس له الحق في الدخول إلى السماء، فالولادة الثانية هي ضرورة حتمية للدخول في علاقة مع الله (يوحنا3: 3، 5).

والإنسان الطبيعي سيقبل بالتأكيد ضرورة الولادة الجديدة لأولئك الذين يعبدون الأوثان، أو لأولئك الذين يعيشون في خطايا جسيمة، لكن كون كل إنسان يجب أن يُولد ثانية، فهذا ما لا يقدر الإنسان الطبيعي أن يفهمه.  ولكن الرب يسوع يقول هذا ليس فقط عن أعدائه، لكن أيضًا عن أولئك الذين اعترفوا به، مثل نِيقُودِيمُوس، رجل الدين، الفريسي، رئيس اليهود، ومُعَلِّم إِسْرَائِيلَ، والذي أعطى الرب يسوع أعظم إكرام يُعطَى لإنسان (يوحنا3: 2).  إن الإنسان الطبيعي لا يستطيع أن يفهم أنه حتى مثل هذا الشخص يجب أن يُولد ثانية (يوحنا3: 7)، لكن الذي يقول هذا هو ذاك المجيد الذي يتكلَّم بِما يعلَم، لأنه هو الأزلي (يوحنا3: 11).

أيها الأحباء، لا يهم مَن تكون، أو ماذا تملك، فالرب لم يقل: “ينبغي أن تُصلح نفسك” أو “ينبغي أن تجتهد وتصير أفضل” أو “ينبغي أن تُغيِّر أسلوب حياتك”، ولكن «يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ»، وهي تعني الجميع على السواء، وتتحدث إلى كل الطبقات، وإلى كل الفئات؛ إلى الإنسان في كل بيئة ورتبة، وفي كل معتقد أو طائفة.  إنها لا تنشد إصلاحًا بل تجديدًا، لا ترميمًا بل تغييرًا شاملاً.

ينبغي أن يُولَد الإنسان ثانية (أو من جديد)، أو من فوق؛ أي بحالة جديدة تمامًا من مصدر جديد للحياة.  والرب يسوع يُخبرنا في يوحنا3: 5 عن ماهية هذا المصدر أو النبع الجديد: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ».

وفي الكتاب المقدس نجد أن الماء هو رمز معروف وواضح لكلمة الله في تطبيقها على الإنسان بواسطة الروح القدس (أفسس5: 26؛ يوحنا13: 10 مع يوحنا15: 3).  وكلمة الله مُطبَّقة بواسطة الروح القدس تُظهِر ميول وأفكار وأفعال الإنسان، وفي نفس الوقت يستخدم الروح القدس الكلمة ليُنتج حياة جديدة في الإنسان؛ حياة مختلفة تمامًا، لا تحمل صفات الوالدين الطبيعيين، لكن تحمل صفات ذاك الذي كان سببًا في وصول هذه الحياة للمؤمن «الْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ» (يوحنا3: 6).

وهكذا فإن كلمة الله يجب أن تجد لها مكانًا في النفس بواسطة قوة الروح القدس حتى يُمكن أن يُولَد الإنسان ثانية (1كورنثوس4: 15؛ يعقوب1: 18؛ 1بطرس1: 22-25؛ 1تسالونيكي1: 5).  وروح الله ليس فقط يُبكِّت الإنسان على الخطية، ولكنه يُوَجِّه ذلك الإنسان إلى مُخَلِّص الخطاة، وهذا يقودنا إلى كلمة «يَنْبَغِي» الثانية التي نطق بها الرب.

ثانيًا: «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ » (ع14،15).  نعم، كان ينبغي أن يُرفَع سَيِّدنا على الصليب.  وما الذي جعل هذا أمرًا محتومًا ولا مفرَّ منه؟  لأنه كان يجب دفع أجرة خطية الإنسان، فالناس لا يمكنهم الذهاب إلى السماء في خطاياهم.  وكما رفع مُوسى الْحَيَّةَ النُحاسيَّة على رَايَة فِي الْبَرِّيَّة، عندما لدغت الحيَّات المُحْرِقَة جميع بني إسرائيل (راجع سفر العدد21: 4-9)، «فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِليْهَا يَحْيَا»، هكذا كان ينبغي أن يُرفَع ابن الإنسان لكي أحصل على حياة جديدة.  وهذه الحياة هي في ابن الله، ولكن لا يمكن أن تكون لي إلا بواسطة موته.

إن موت المسيح هو الأساس الوحيد للحياة بالنسبة لي، وإن نظرة واحدة إلى المسيح المرفوع من أجلي تُعطيني الحياة الأبدية.  والنفس التي تؤمن بابن الله كمن مات وقام من أجلها “تُولَد من الماء والروح”، وتنال الحياة الأبدية، وتنتقل من الموت إلى الحياة، ومن الخليقة العتيقة إلى الخليقة الجديدة، ومن المذنوبية إلى البراءة، ومن الدينونة إلى الرضَى الإلهي، ومن الظلمة إلى النور، ومن الشيطان إلى الله.

ثالثًا: وإذ أُولَد ثانية، ويصير المسيح مُخَلِّصي، تواجهني «يَنْبَغِي» للمرة الثالثة، والتي قالها خادم الرب الأمين يوحنا المعمدان: «يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (ع30).

إنه من امتياز كل مؤمن أن يُعلِن المسيح للآخرين باعتباره المُخَلِّص الوحيد، ولكن الخادم الحقيقي – كيوحنا المعمدان – يجتهد أيضًا أن يختفي خلف سَيِّده حتى يتمجد المسيح.  وكل سعي لخادم المسيح لجذب الانتباه إليه يُشكِّل في الواقع ضربًا من الخيانة وعدم الولاء للرب.

يجب أن نُدير ظهورنا لظلنا، ونُدير الوجه نحو المسيح.  يجب أن ننظر إلى كل الأشياء من وجهة نظره هو، مجتهدين دائمًا أن ندرك كيف ينظر إليها.  وبعد ذلك ندخل إلى عواطفه، ويجب أن نفكر بأفكاره، ونحس بأفراحه، ولا نعود نعيش لأنفسنا بل له.

أيها الأحباء، إنها تجربة عظيمة أن نبرز أنفسنا بكرازتنا، أن نُدخل شخصياتنا في عملنا لله، أن نجمع الناس حولنا بدلاً من أن نجمعهم حول ذاك الذي نُكلِّمهم عنه، وأن نحوِّل الأنظار إلى نفوسنا أكثر من تحويلها للرب.  وكم من الكنائس قد قاست الكثير من جراء جعل إحدى الشخصيات مسيطرة على العبادة بجميع أجزائها.

ليت كلاَّ مِنَّا يُظهِر التكريس الحقيقي والمحبة الصادقة والعواطف المقدسة والخدمة التاعبة لسَيِّدنا المعبود، ويَظهَر منكرًا لذاته في خدمته، قائلاً: «يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ»!