لولا العناية الإلهية، كان من الممكن جدًّا أن يكون الكاتب أو القارئ من ركاب تلك الطائرة القادمة ليلة الثلاثاء الموافق 11 مايو 2010 من چوهانسبرج في جنوب أفريقيا إلى ليبيا، ثم تنطلق بعدها إلى لندن والتي كانت تُقِل أكثر من مئة راكب، وأثناء هبوطها احترقت الطائرة بمن فيها، فمات الركاب جميعًا. لكن تدخلت العناية الإلهية وأنقذت طفلاً هولنديًّا هو روبن ڤان أسو، صاحب الـ9 سنوات. كان على متنها مع شقيقه وأبويه اللذين كانا يحتفلان بعيد زواجهما في جنوب أفريقيا، ولكنه رجع من الرحلة وحيدًا بعد انتشاله من حطام الطائرة، وهو الآن بصحة جيدة بعد أن خضع لعدة عمليات جراحية لعلاج الكسور المضاعفة التي تعرض لها، وأصبح الطفل مَحطّ اهتمام جميع وسائل الإعلام.
لا شك أنك ستشكر الله معي لأنك لستَ من الـ99 الهالكين، بل نظير المحظوظ الوحيد الناجي تتنفس وتتكلم، تتذكر وتتفكر، وما زلنا بالله نحيا ونتحرك ونوجد. فما هي الحكمة من نجاتنا؟ وما هو الغرض من حياتنا؟ لقد مات الكثيرون من حولنا في حوادث متنوعة أو بأمراض مختلفة، وبقينا نحن أحياء إلى هذه الساعة، فماذا يريد أن يقول لنا الله الخبير والعليم، الحكيم والكريم؟ أرجو أن يتسع وقت وقلب القارئ ليسمع ويقرأ أبقى الكلام وأسماه، بل أطهره وأنقاه، الذي قال عنه المسيح نفسه: «فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ» (متى5: 18)! فهل هناك ما هو أغلى من نفسك الخالدة حتى تهملها ولا تفكر فيها؟
المُخَلَّصون قليلون
قال الرب يسوع: «إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا15: 4)؛ فالتائبون الحقيقيون قليلون. قال الرب يسوع أيضًا: «اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!» (متى7: 13، 14). لقد أهلك الله العالم القديم كله أيام نوح، ولم يخلص منهم إلا 8 أنفس فقط. يقول الرسول بطرس: «... حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ» (1بطرس3: 20، 21). كذلك في أيام لوط؛ فقد أحرق الله سدوم وعمورة ولم ينجُ منهما أحد إلا لوط وابنتيه. حتى زوجته التى خرجت معه ماتت، وصارت عمود ملح (تكوين19: 26).
بيت واحد يخلص ومدينة كاملة تهلك
البيت هو بيت راحاب التي آمنت والمدينة هي مدينة أريحا، لذلك «قَالَ يَشُوعُ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَجَسَّسَا الأَرْضَ: ادْخُلاَ بَيْتَ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ وَأَخْرِجَا مِنْ هُنَاكَ الْمَرْأَةَ وَكُلَّ مَا لَهَا كَمَا حَلَفْتُمَا لَهَا. فَدَخَلَ الْجَاسُوسَانِ وَأَخْرَجَا رَاحَابَ وَأَبَاهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتَهَا وَكُلَّ مَا لَهَا وَكُلَّ عَشَائِرِهَا وَتَرَكَاهُمْ خَارِجَ مَحَلَّةِ إِسْرَائِيلَ. وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا... وَاسْتَحْيَا يَشُوعُ رَاحَابَ الزَّانِيَةَ وَبَيْتَ أَبِيهَا وَكُلَّ مَا لَهَا» (يشوع6: 22 25). ويقول الرسول للعبرانيين: «بالإِيمَانِ سَقَطَتْ أَسْوَارُ أَرِيحَا بَعْدَمَا طِيفَ حَوْلَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. بِالإِيمَانِ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ الْعُصَاةِ، إِذْ قَبِلَتِ الْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ» (عبرانيين11: 30، 31).
الشاكرون قليلون
جاء إلى يسوع 10 رجال بُرص «وَصَرَخُوا قائلين: يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ ارْحَمْنَا. فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: ﭐذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ. وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا. فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ شُفِيَ رَجَعَ يُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِرًا لَهُ. وَكَانَ سَامِرِيًّا. فَقَالَ يَسُوعُ: أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟ أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْدًا لِلَّهِ غَيْرُ هَذَا الْغَرِيبِ الْجِنْسِ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُ: قُمْ وَامْضِ. إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ» (لوقا17: 13 19)
الفعلة قليلون
كان مع جدعون شعب كثير، لكن بعد امتحانين متتاليين لم يصلح منهم سوى 300 فقط؛ ففي امتحان الشجاعة وعدم الخوف رجع 22 ألفًا منهم وبقي 10 آلاف، وفي الامتحان التالي؛ وهو طريقة شرب الماء (يلغون أم ينبطحون) نجح 300 فقط من 10 آلاف. وهؤلاء هم الذين استخدمهم الرب في الخلاص من المديانيين (قضاة7). والانبطاح هو رمز للميل الشديد للملذَّات العالمية التي تفشَّت بكثرة في وقتنا الحاضر. فغير المؤمنين يتصفون بأنهم «محبين لِلَّذَّات دون محبة الله» (2تيموثاوس3: 4)؛ منها مثلاً الأفلام والمسلسلات الخليعة، وإهدار الوقت في الرياضة الجسدية مع أنها نافعة لقليل، والحفلات العالمية، والميل للجنس الآخر، والسُّكْر، والمخدرات، وغيرها. يقول الكتاب: «إِنْ جَرَيْتَ مَعَ الْمُشَاةِ فَأَتْعَبُوكَ فَكَيْفَ تُبَارِي الْخَيْلَ؟ وَإِنْ كُنْتَ مُنْبَطِحًا فِي أَرْضِ السَّلاَمِ فَكَيْفَ تَعْمَلُ فِي كِبْرِيَاءِ الأُرْدُنِّ؟» (إرميا12: 5). وقال الرب يسوع للجموع: «إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ وَلَكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ» (لوقا10: 2).
الرجال قليلون
قال نحميا، ذلك الرجل الذي تثقل ببناء أسوار أورشليم المنهدمة: «جِئْتُ إِلَى أُورُشَلِيم... أَنَا وَرِجَالٌ قَلِيلُونَ مَعِي» (نحميا2: 11، 12). والرب اليوم يطلب رجالاً ليعلموا فكره، ويعملوا عمله ومعه. قال السيد الرب: «شَعْبُ الأَرْضِ ظَلَمُوا ظُلْمًا وَغَصَبُوا غَصْبًا، وَاضْطَهَدُوا الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ، وَظَلَمُوا الْغَرِيبَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَطَلَبْتُ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلاً يَبْنِي جِدَارًا وَيَقِفُ فِي الثَّغْرِ أَمَامِي عَنِ الأَرْضِ لِكَيْلاَ أَخْرِبَهَا، فَلَمْ أَجِدْ!» (حزقيال22: 29، 30).
يا ليتنا نكون من القليلين المُخَلَّصين، والشاكرين الساجدين، ومن الرجال القليلين العاملين، لا تلهينا شهوة، ولا تعطلِّنا شهرة، ولا تعمي عيوننا ثروة أو فضة، بل وإن «رَجَعَ كَثِيرُونَ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ»، نجيب مع سمعان بطرس: «يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ» (يوحنا6: 66، 68).