فيما وُصِف بأنه من أسوأ الكوارث البيئية والاقتصادية في تاريخ أمريكا، حدث انفجار، يوم 20 أبريل 2010، نَجَم عن تسرب غازي في منصة بحرية لاستخراج النفط (البترول) يُطلَق عليها “Deepwater Horizon” تابعة لشركة “British Petrolium” البريطانية؛ مما أدَّى إلى مصرع 11 عاملاً وإصابة 17 آخرين، وإلى غرق المنصة، مما سبَّب تسربًا نفطيًّا هائلاً في خليج المكسيك جنوبي الولايات المتحدة الأمريكية، مُهدِّدًا النظام البيئي والحياة البحرية وأحواض تربية الأسماك في أربع ولايات أمريكية على الأقل. وقد حدث التسرب بسبب أضرار لحقت بغطاء بئر النفط الواقعة في العمق تحت المنصة. وفي أقل من أسبوعين كانت بقعة هائلة من النفط، تدفعها رياح قوية من الجنوب الشرقي، قد وصلت بالفعل إلى جُزُر قريبة من سواحل ولاية لويزيانا، الأمر الذي أدَّى إلى إغلاق ثاني أكبر المحميات الطبيعية في أمريكا أمام الجمهور. وقد أعلن خبراء صندوق حماية الحياة البرية أن تسرب النفط في خليج المكسيك يتسبب في كارثة بيئية على الحياة الحيوانية والنباتية في السواحل الممتدة بين ولايتي لويزيانا وفلوريدا مما يهدد ما بين 400 و 600 نوع من الكائنات الحية في تلك المنطقة.
ومنذ ظهور أولى علامات التسرب النفطي بذلت الشركة البريطانية جهودًا كبيرة ونفقات كثيرة في محاولات عديدة لاحتواء بقعة البترول والتي يُقَدَّر طولها بنحو 210 كيلومترات وعرضها بنحو 112 كيلومترًا، فيما أعلنت الولايات المتحدة حالة الطوارئ وإرسال 1900 من رجال الإنقاذ وأكثر من 300 سفينة وطائرة إلى موقع التسرب. وكان حرس السواحل يقومون بوضع حواجز من البلاستيك على مدى كيلومترات لمنع اقتراب البقعة النفطية، لكن الرياح الشديدة والأمواج العاتية عاقت بشدة نشر مزيد من الحواجز وجهود رش النفط بمذيبات كيماوية من الزوارق والطائرات. وأحرقت فرق التدخل جزءًا من البقعة، لكن تغيُّرًا في اتجاه الرياح بدَّد النتائج. في الوقت نفسه كان المهندسون بشركة النفط يحاولون، بالاستعانة بروبوتات بحرية، تركيب غرفة معدنية ضخمة لتغطية فوهة البئر التي يتسرب منها حوالي 5 آلاف برميل (ما يقرب من 800 ألف لتر) من النفط يوميًّا في خليج المكسيك، وذلك في مهمة صعبة للغاية تستلزم دقة متناهية وسط الظلام وضغط المياه العالي على عمق 1.6 كيلومتر تقريبًا. ولكن باءت محاولتهم بالفشل بعدما أدَّى تراكم بلورات غازية، ناجمة عن اختلاط غاز الميثان بالماء، إلى عرقلة جهود تغطية البئر ومنع إتمام تركيب أنبوب بالهيكل المعدني الضخم لتمرير نحو 85% من النفط المتسرب إلى ناقلة نفط.
ومع تطور الأحداث ارتفعت تقديرات التسرب النفطي إلى ما بين 20 و 40 ألف برميل يوميًّا، بينما تواصلت جهود الشركة البريطانية للسيطرة على بقعة البترول في محاولات لسحب النفط المتسرب ونقله إلى أحواض للتخزين باستخدام سفينة عملاقة ومنصة بحرية ضخمة. وحتى تاريخ كتابة هذا المقال لم تتم السيطرة على هذا التسرب غير المسبوق، وإن كانت الشركة قد نجحت أخيرًا في تثبيت غطاء يحوي عددًا من الصمامات سيتم إغلاقها تدريجيًّا بهدف التأكد أنها ستصمد أمام ضغط تدفق النفط، ولن يتم سد البئر بشكل كامل حتى يتم الانتهاء من حفر بئر موازٍ وتوصيله بقاع البئر المنفجر، حيث تعتزم الشركة الدفع بكميات من الأسمنت والطين السميك عبر أنبوب البئر الجديد لإغلاق بئر النفط بشكل دائم.
هذا وقد أدَّت الكارثة إلى توتر في العلاقات بين الولايات المتحدة وبريطانيا في أعقاب انتقادات حادة لشركة النفط البريطانية صرَّح بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي قال إنها “كارثة بيئية غير مسبوقة” مقارنًا إياها بأحداث 11 سبتمبر، بينما اتهمت رئيسة مجلس النواب الأمريكي الشركة “بعدم النزاهة”. وأعلنت الشركة أنها تكلفت حتى الآن نحو 3.5 مليارات دولار، مشيرة إلى أن هذه التكاليف تشمل محاولة غلق البئر وتطهير الأضرار البيئية الناجمة عن التسرب ودفع تعويضات للمتضررين.
على أثر متابعتي لهذا الحدث، دارت أفكار برأسي، ربطت فيها بين بقعة النفط والخطية، وقد تراءى لي أن أشاركك بها، قارئي العزيز:
لبقعة خرجت من الأعماق، من تحت السطح؛ والخطية لا تنبع من الظروف بل من القلب. «لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ ... جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ» (مرقس7: 21-23). فعبثًا نحاول أن نطهر الخارج قبل الداخل. قال السيد: «وَيْلٌ لَكُمْ... لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ... نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضًا نَقِيًّا» (متى23: 25، 26).
محاولات التخلص من البقعة باءت إلى الآن بالفشل. وكل ما حاول الإنسان أن يفعله لم (ودعني أقول: ولن) يفلح في محو الخطية. لقد حاول آدم وحواء قديمًا ستر نتائجها بأوراق التين فجفَّت (تكوين3)، وبعدهما بزمن قال واحد: «أَنَا مُسْتَذْنَبٌ... وَلَوِ اغْتَسَلْتُ فِي الثَّلْجِ، وَنَظَّفْتُ يَدَيَّ بِالإِشْنَانِ (الصودا الكاوية)، فَإِنَّكَ فِي النَّقْعِ تَغْمِسُنِي حَتَّى تَكْرَهَنِي ثِيَابِي» (أيوب9: 29 31؛ انظر أيضًا إشعياء64: 6). لكن أَبشِر، أخي، فإن فَشَل مذيب النفط فمزيل الخطية دائم الفاعلية: «دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يوحنا1: 7)؛ فأسرع إليه!
البقعة ظهرت لأنها على سطح نقي. فالمشكلة أننا نقارن خطايانا بعضنا ببعض، فنجد أنفسنا بلا عيب. لكن خطايانا ينبغي أن تُقاس في ضوء قداسة الله لنعرف جُرمها وبشاعتها. فليتنا لا نغفل أننا عندما نفعل الشر نفعله «في عيني الرب» (عدد32: 13؛ تثنية4: 25؛ 1ملوك11: 6؛ تابع هذا التقرير في حياة باقي ملوك يهوذا وإسرائيل)، نفعله في عيني ذاك الذي عيناه «أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ» (حبقوق1: 13)، فيا للرهبة!!
البقعة أماتت الكائنات التي اعتادت على النظافة وقتلت كل جمال. والخطية تقتل فينا كل ما أراده الله فينا جميلاً! فهي تزرع الحقد بدل الحب، والنهب بدل العطاء، والنجاسة بدل الطهر، والشراسة بدل اللطف... إلخ. ولعل هذا يفسر الكثير من تصرفاتنا المرفوضة.
تأثيرالبقعة كان واسع النطاق. فـ«الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ» مع أنها صغار غير أنها «مُفْسِدَةَ الْكُرُومِ» (نشيد2: 13)، والخطية وإن بدأت «خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ» لكنها سرعان ما «تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ» (1كورنثوس5: 6؛ غلاطية5: 9). فهي تنتشر في كل الحياة، ومن ثم تدمرها؛ فلنحذر منها ولا نستصغرها!
البقعة سبَّبت مشاكل بين دول. والخطية يمتد تأثيرها إلى المحيطين أيضًا، فكم من ابن خيَّب ظن أبيه وسبَّب حزنًا لأمه (أمثال10: 1)، وكم من مصائب حلَّت ببيوت بسبب الخطية (أمثال28: 7)، ولا يمكن حصر من دُمِّرت حياتهم بسبب رفقاء السوء (أمثال13: 20؛ 1كورنثوس15: 33). فليتنا نتجنب فاعليها!
والدروس والمقارنات كثيرة، أتركها لفطنة وتأمل قارئي العزيز، ولكن دعني أختم بفكرة أنه متى ما حدث الانفجار فإن تفادي العواقب يكون صعبًا. فلنقي أنفسنا من مغبَّة فِعل الخطية، ولنعُد للرب بتوبة حقيقية عما مضى، ولنعِش حياة القداسة، وما أجملها!