الحنين إلى الوطـن

بكيت عندما رأيته يبكي، فدموعه صادقة، وعواطفه جياشة تجاوب معها العالم.  إنه “تاي سي”؛ لاعب كوريا الشمالية، أثناء عزف السلام الوطني لبلاده، وذلك قبل مباراة المنتخب الكوري مع منتخب البرازيل في جنوب أفريقيا 2010.  وعندما سُئِل اللاعب عن سر بكائه أجاب: “الوطن!  حبه والحنين إليه، إنني هنا سفير عن بلادي وأشعر أنه لشرف عظيم أن أردد النشيد الوطني لبلادى...” 

وقد يسأل سائل: وهل يبكي الرجال؟!  كان “فرديرك نيتشه” الألماني يتبنى فلسفة أن الوجود الإنساني يتكون من طرازين مختلفين: الأول يمثل الأقوياء، والثاني يمثل الضعفاء، أو السادة والعبيد، أو النبلاء والصعاليك.  وأن الصراع بين الطرازين يقوم على القوة.  وكان يعتقد بأن الرجال لا يجب أن يبكوا لأن البكاء دليل الضعف وليس دليل القوة، ولذا كان يسخر ممن يدعون إلى التسامح والصفح ومحبة الأعداء، وبالتالي كان يقاوم المسيحية.  تبنَّى “هتلر” فلسفة “نيتشه” فكان ينزوي في المناسبات، ولا يشارك في الأعياد أو المسرَّات.  لكننا نحن نشكر الله لأننا لسنا أتباع “نيتشه” الألماني لكن من مُحبي يسوع السماوي.  وكتابنا المقدس مليء بالمناسبات الهامة التي فيها ذُرِفت أغلى الدموع والتي قال عنها داود: «اجعل أنت دموعي في زِقِّك» (مزمور56: 8).  ومن أشهر هذه الدموع:

1- دموع التوبة والرجوع

مثل دموع المرأة الخاطئة التي شعرت بالذنب؛ فالخطية طوَّحت بها بعيدًا وفصلتها عن الله، لذلك جائت إلى يسوع بقارورة طيب، ووقفت عند قدميه من ورائه باكية، وبلَّلتهما بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وتقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب، وأمام هذه التوبة الصادقة قال لها يسوع: «مغفورة لك خطاياك...  إيمانك قد خلصك...  اذهبي بسلام» (لوقا7: 49، 50).

2- دموع الاحتياج إلى يسوع

عندما يمرض عزيز علينا إلى من نذهب به؟!  في إنجيل مرقس الأصحاح التاسع جاء أب إلى الرب يسوع، وهو يبكي بالدموع، من أجل ابنه المصروع.  لقد امتلكه روح نجس فكان يجعله يقع على الأرض يتمرغ ويُزبِد، وكثيرًا ما ألقاه في النار وفي الماء ليهلكه، «فانتهر الرب يسوع الروح النجس قائلاً له: أيها الروح الأخرس الأصم أنا آمرك أخرج منه ولا تدخله أيضًا.  فخرج الروح وأمسك يسوع بيد الصبى وأقامه» (مرقس9: 17-27).
3- دموع يسوع

وقد ذرفها في ثلاث مناسبات. 

أولاً: حين بكى على حبيبه لعازر عندما مات.  صحيح أنه بلاهوته أقامه من القبر بعد أن مات ودُفِن بأربعة أيام، لكن بناسوته كإنسان كامل أظهر مشاعره وتعاطفه مع الأختين و«بكى يسوع» (يوحنا11: 35)! 

ثانيًا: بكى على مدينة أورشليم التي خدم فيها وشفى وعلَّم.  وبكى على الأقل لسببين هامين؛ (1) الديانة الباطلة والتي قال عنها: «هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيدًا» (مرقس7: 7).  (2) الدينونة القادمة والتي قال عنها المسيح: «إنكِ لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومِكِ هذا ما هو لسلامك...  فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون عليك، ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجرًا على حجر، لأنك لم تعرفي زمان افتقادك» (لوقا19: 42-44). 

ثالثًا: بكى أمام أهوال وآلام الصليب التي يلخِّصها كاتب رسالة العبرانيين بالقول: «الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلِّصه من الموت وسُمِع له من أجل تقواه» (عبرانيين5: 7).  طبعًا سُمع له بالقيامة من بين الأموات.

4- دموع محبة الأهل والجموع

وأول هذه الدموع هي دموع إبراهيم عندما ماتت سارة؛ شريكة رحلة الحياة والجهاد.  وهنا يبكي إبراهيم لأول مرة: «فأتى إبراهيم ليندب سارة (أي ليعدد محاسنها) ويبكي عليها» (تكوين23: 2).

أما أحن دموع هي دموع داود على ابنه أبشالوم: «وكان يبكي ويقول هكذا وهو يتمشى: يا ابني أبشالوم، يا ابني، يا ابني أبشالوم!  يا ليتني كنت مُت عوضًا عنك يا أبشالوم ابني، يا ابني!» (2صموئيل18: 33).

أما أرقى دموع هي دموع يوسف لأجل إخوته.  لقد بكى في سبع مناسبات لأجل الآخرين ولم يبكِ ولا مرة واحدة على نفسه.
أما عن أسمى دموع للخادم فهي دموع إرميا، ودموع الرسول بولس عندما استدعى قسوس مدينة أفسس وتحدث إليهم مُحذِّرًا من الذئاب الخاطفة التي لا تُشفق على الرعية وقال لهم: «ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ ورائهم.  لذلك اسهروا متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً و نهارًا لم أفتُر عن أن أُنذر بدموع كل واحد» (أعمال20: 30، 31).
5- دموع الشوق لأحلى الربوع


«وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت» (رؤيا21: 4).  فإن كان اللاعب الكوري بكى شوقًا وحبًّا وتقديرًا للوطن؛ فكم يكون شوق المؤمن لوطنه الأبدى: «فإن سيرتنا نحن (أي دولتنا ووطننا) هي في السماوات التي منها أيضًا ننتظر مُخَلِّصًا هو الرب يسوع المسيح» (فيلبي3: 20).

 وإن كان “تاي سي” بكى بعد المباراة أيضًا لأنه لم يستطع أن يحرز انتصارًا يُسعد بلاده ووطنه، فيا ليتنا نحن نبذل قصارى جهدنا لنُكرم إلهنا!  فإن كان المسيح هو سيدنا ونحن العبيد فيجب أن تكون لنا أمانة واجتهاد العبيد، وإن كان المسيح هو العريس ونحن العروس فيجب أن يكون لنا أشواق وعفة العروس وأن نعمل بنصيحة الرسول الهامة نحو وطننا الحبيب الأبدي: «إذًا يا إخوتى الأحباء كونوا راسخين، غير متزعزين، مُكثِرِين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب» (1كورنثوس15: 58).  وقريبًا جدًّا سنودع ظلم الحياة وكَدَر العيش، ننساهما لما نرى حبيبنا في العرش.  دعونا ننسى الأسى ونرنم ترنيمة الوطن:

سأرى سأرى عيانًا فادي الورى
أمكث جوار يسوع بلا نحيب
سأنسى أنا أتعابي هنا
سأنسى أنا آلامي هنا
حين ألقى يسوع الحبيب