رأينا في المرة السابقة كيف وجَّه الشيطان سهمه الأول للإنسان في صورة “تشكيك”، زارعًا بذار الشَّك في صدق أقوال الله ومحبته وصلاحه نحو الإنسان، وفي بِرِّه وعدله، وفي بواعثه ونواياه. وحاول أن يُشوِّه صورة الله في نظر الإنسان ويُفسد العلاقة بينهما. وفي رد المرأة على الحيَّة رأينا أنها قد تأثرت واقتنعت بكلامها، وتشكَّكت فعلاً في صدق الأقوال الإلهية ودِقَّتها، فلم تحترم نَصَّ العبارات التي قالها الرب الإله لآدم، فحذفت منها، وأضافت إليها، وحَوَّرت فيها.
وعندما شعر الشيطان أن المرأة تجاوبت معه بهذه السرعة ألقَى سهمه الثاني، وكان هذه المرة في صورة “تكذيب”. فقالت الحيَّة للمرأة: «لن تموتا» (تكوين3: 4). وهذا الرد القاطع جاء بعد أن تشكَّكتْ المرأة في حُكم الله. لقد قال الله: «موتًا تموت»، وقالت المرأة: «لئلا تموتا»، وقالت الحيَّة: الحقيقة إنكما «لن تموتا». وهذا تكذيبٌ صريح لأقوال الله.
وإلى يومنا هذا يحاول العدو أن يجعل الخطية سهلة للإنسان، ويُخفِّف العقاب والنتائج التابعة، ويُكرِّر نفس العبارة: «لن تموتا»، ولن تحدث أيَّة مشكلة، وستعبر الأمور بسلام. وربما يقنعه أن هذه الأمور طبيعية جدًّا وأن كثيرين يفعلونها ولا يتعرَّضون لأيَّة مخاطر. والإنسان عادة وهو يخوض تجربة جديدة يشعر بقلق واضطراب في الضمير خوفًا من النتائج والحصاد المُرتبط بالخطية. وعادة يفكِّر في المتاعب والنتائج الحاضرة وما يمكن أن يصيبه هنا، أكثر كثيرًا مما يفكر في الأبدية. والشيطان يُغري الإنسان ويدفعه ويُطمئنه قائلاً: «لن تموت». والإنسان يُصدِّق الشيطان ويُكذِّب الله. إن الكتاب يقول: «أجرة الخطية هي موت» (رومية6: 23)، «وليكن اللهُ صادقًا وكلُّ إنسانٍ كاذبًا» (رومية3: 4). «ومَنْ لا يُصدِّق الله فقد جعله كاذبًا» (1يوحنا5: 10)، وما أخطر هذا الموقف! و«لأن القضاء على العمل الرديء لا يُجرَى سريعًا، فلذلك قد امتلأ قلب بني البشر فيهم لفعل الشر» (جامعة8: 11). وإذا فعل الإنسان الشر مرَّة وعبَرَتْ الأمور بسلام، فإن ضميره سيتقوَّى ليُكرِّر الخطأ عدة مرات، حتى يصير الأمر زهيدًا في عينيه أن يعمل الشر في عيني الرب.
إن الله أمين عندما يُحذِّر الشرير من عواقب هذا الطريق قبل أن يدركه الغضب والهلاك، والعاقل هو الذي يسمع التحذير ويخاف من الخطية. يقول الرب للشرير: «هذه صنعتَ وسكتُّ، ظننتَ أني مثلكَ. أوبخك، وأصفُّ خطاياك أمام عينيك. افهموا هذا يا أيها الناسون الله، لئلا أفترسكم ولا منقذ» (مزمور50: 21، 22). وكم من شباب انخدعوا بإغراء العدو، وبسبب خطية واحدة، ولو مرة واحدة، دفعوا ثمنًا باهظًا وذرفوا دموعًا غزيرة.
اطمأنت المرأة للحيَّة، واستراحت لكلامها، واعتبرت أنها أكثر حكمةً وخبرةً منها؛ فأعطت مزيدًا من الإصغاء لها، فواصلت الحيَّة حديثها للمرأة، ووجَّه العدو سهمه الثالث وكان في صورة “ترغيب”، فهو ما زال الصديق الودود الذي يُقدِّم النُصح والتوجيه. فأضافت الحيَّة قائلة: «بل الله عالمٌ أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشَّر» (تكوين3: 5). لقد ذكر الشيطان نصف الحقيقة إذ ستنفتح أعينهما ويعرفان الخير والشَّر. لكن هل حقًا سيكونان كالله؟! لقد كانت هذه هي الخدعة الكبرى من الكذَّاب وأبو الكذَّاب.
كانت رغبة الشيطان القديمة أن يصعد إلى السماوات، ويرفع كرسيه فوق كواكب الله، فوق مرتفعات السحاب، ويصير مثل العلي (إشعياء14: 13، 14). فكانت النتيجة أنه سقط وانحدر إلى الهاوية، إلى أسافل الجب. وعندما فشل هو في محاولته، أعاد المحاولة مع الإنسان ليخوض نفس التجربة ويقوده إلى ذات النتيجة، فحاول أن يغريه ويُعمِّق الرغبة فيه أن يصير كالله بدلاً من الخضوع لسلطان الله. وكيف للمخلوق أن يصير مثل الخالق؟!
وقد أوحى الشيطان للمرأة أن الله منعهما من الأكل من هذه الشجرة بالذات لأنه عالمٌ أنهما إذا أكلا منها سيكونان كالله في الحال، وهو لا يريد لأحدٍ من خلائقه أن يكون مثله. وبذلك أظهر الله كشخص متكبر يريد أن يحتفظ بمسافة مهولة بينه وبين خليقته، ولا يَدَع أحدًا يقترب منه أو يُشابهه.
ولكن هل بالحقيقة أن الله لا يريد أن يكون الإنسان مثله وقريبًا منه؟ ألم يَقُل الله عندما خلق الإنسان: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تكوين1: 26)، وكانت هناك مُشابهة أدبية بينه وبين الله يوم خُلق وحتى السقوط؟ وأهم من ذلك، وهذا ما كان يجهله الإنسان والشيطان معًا، مشروع الله الأزلي من نحو الإنسان: «لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم ليكونوا مُشابهين صورة ابنه» (رومية8: 29). هذا ما حاول الإنسان أن يصل إليه بجهله عن طريق العصيان على الله وكسر وصيته، فكانت النتيجة هي السقوط الرهيب له ولكل الجنس البشري، وهو لا يعلم أن الله في الأزل البعيد، قبل الخليقة وقبل الملائكة وسقوط الشيطان، كان يفكر في الإنسان، موضوع محبته ومجال استعراض نعمته، أسمى الأفكار الصالحة ليجعله فعلاً مُشابهًا صورة ابنه في محضر مجده في السماء بطول الأبدية، وليس في جنَّة على الأرض.
انخدع الإنسان بكلام الشيطان، وظن أنه إذا عرف الخير والشَّر سيصبح مثل الله. لكنه وقد عرف الخير والشَّر عجز أن يفعل الخير، وعجز أن يمتنع عن الشَّر. ظن أنه سيتحرر من القيود فلا يعود في مركز الخضوع لله، وسيصبح حُرًّا في اختياره وقراره ليفعل ما يراه ويقتنع به وينفذ إرادته الذاتية بدلاً من أن يعيش ليفعل إرادة الله. وبالإجمال أراد الاستقلال عن الله، وهذا هو تعريف الخطية. وتبقى الحقيقة أن «مَنْ يفعل الخطية هو عبدٌ للخطية» (يوحنا8: 34). وما أتعس النتائج عندما يرفض الإنسان الخضوع لسلطان الله ويختار الخضوع لسلطان الخطية والشيطان!