«وقال لهم أيضًا مثلاً: ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد علي ثوب عتيق. وإلا فالجديد يشقه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد. وليس أحد يجعل خمرًا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق فهي تُهرَق والزقاق تتلف. بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة فتُحفَظ جميعًا. وليس أحد إذا شرب العتيق يريد للوقت الجديد لأنه يقول: العتيق أطيب» (لوقا5: 36 39).
دعاه المسيح ليتبعه، وبلا تردّد ضحَّى بوظيفة تُدِر عليه دخلاً كبيرًا (مأمور ضرائب)، وتعبيرًا عن فرحه بغفران خطاياه وتغيير حياته، صنع للمسيح ضيافة كبيرة في بيته ودعا إليها أصدقاء المهنة القديمة (العشارين) ومعهم الكثير من الكتبة والفريسيون لعلهم يتعرفون على المسيح نظيره. إنه مَتَّى العشار، كاتب الإنجيل. أما هم، فلأنهم متدينون كثيرا فَهُم - في نظر أنفسهم - أصحاء وأبرار، فلا حاجة لهم للمسيح، فابتدأوا ينتقدون تلاميذ المسيح ويسألونه.
فريقان وسؤالان
سأل الفريسيون ومعهم تلاميذ يوحنا فيما يأتي:
س1: لماذا تأكلون وتشربون مع عشارين وخطاة؟
س2: لماذا نصوم نحن وأنتم لا تصومون؟
وفي السؤالين نرى حالة الإنسان المتدين داخليًّا وخارجيًّا؛ ففي الخارج هم أصحاب البِرِّ الذاتي والكبرياء والانتفاخ علي الآخرين (لا تدنُ مني لأني أفضل منك)، وفي الداخل هم أصحاب الزُهد والتقشّف والأصوام الكثيرة.
ولهؤلاء القوم ضرب الرب هذا المثل السهل في كلماته والعميق في معانيه.
خليقة جديدة
أوضح الرب في رَدِّه على أسئلة الفريسيين أن الهدف من مجيئه إلى العالم لم يكن لإصلاح الإنسان الذي فسد وأفسد طريقه أمام الله، بل خلق جديد للإنسان وتغييره تغييرًا كاملاً. وهذا هو الفارق بين المسيحية وأي ديانة. فالديانات البشرية تحاول إصلاح وتهذيب الإنسان بالصوم والصلاة والتردد على أماكن العبادة والصدقات. ولكن هيهات! لأنه «مَنْ يُخرِج الطاهر من النجس؟ لا أحد!» (أيوب14: 4). وأما المسيحية الحقيقية، فتبدأ باعتراف الإنسان بفساده وقبول المسيح ودمه الذي يطهِّر من كل خطية، فيصبح إنسانًا جديدًا.
القديم والجديد
أمامنا مثل موضوعه هو: القديم والجديد. ويمكن تقسيمه لثلاثة أجزاء: (1) ثوب جديد وثوب عتيق؛ (2) خمر جديدة وزقاق عتيقة؛ (3) من يشرب العتيق لا يريد الجديد.
الرمز والمرموز إليه: القديم هو ما كان إلى مجيء المسيح؛ أي العهد القديم أو الناموس، والجديد هو ما حدث من المسيح فصاعدًا؛ أي العهد الجديد أو النعمة، ولا يصلح إطلاقًا الخلط بينهما. وإن فعل أحد ذلك فستكون النتيجة هي كنتيجة الخلط بين الثوب الجديد بالعتيق أو وضع الخمر الجديدة في زقاق عتيقة. وهذا ما أراد الرب إيضاحه بهذا المثل.
1. رقعة جديدة على ثوب قديم
لأن الرب نشأ في بيت فقير وبيئة فقيرة؛ فبالتأكيد رأى النساء وهنَّ يرقِّعن ثيابهن القديمة بقطع قماش جديدة. وعند غسل الثياب تنكمش (تكش) القطعة الجديدة وتنشق عن باقي الثوب، فيصير أردأ مما كان عليه قبلاً.
2. خمر جديدة في زقاق قديمة
كان اليهود يحفظون الخمر في زِق (قِربة) من جلود الحيوانات. فالخمر الجديدة توضع في زقاق جديدة لأنه مع الوقت يزداد حجم الخمر بسبب تخمّرها فيتمدد جلد الزقاق الجديد معها بذات الحجم، فلا ينقطع وتسيل منه الخمر على الأرض. والمعنى المقصود أن الروح القدس، المرموز له بالخمر الجديدة، لا يسكن في قلب قديم متحجِّر لا يحتمله ولا يقبله، بل في قلب جديد ونقي تَطَهَّر بالإيمان. فمع تزايد ثمر الروح يتسع القلب أكثر للآخرين بالمحبة والمسامحة، فتكون النتيجة خلع الإنسان العتيق الفاسد ولبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله (أفسس4: 20-24).
الخلاصة:
على المستوى الفردي: لأن الإنسان مولود بالخطية وميت بالذنوب والخطايا فهو يحتاج إلى حياة جديدة لا إلى ترقيع قطع جديدة من صلوات أو صدقات أو أصوام أو حضور اجتماعات على طبيعته القديمة. فطبيعته القديمة لا تحتمل أن تعيش كثيرًا في الجو الروحي، وأعماله الصالحة تخرج منه مُنَجَّسة ومُلَوَّثة، وبعد وقت قليل تراه أردأ مما كان قبلاً.
على المستوى الجماعي: العهد الجديد ليس استكمالاً للعهد القديم، أو لإصلاح ثقوب أو ثغرات ظهرت به. فلا يصلح خلط الناموس والطقوس، والفرائض بالنعمة؛ لأن هذا يصير نظامًا دينيًّا لا هي مسيحية ولا هي يهودية. لأننا نرى في اليهودية أن الإنسان يفعل شيئًا يبحث من خلاله عن الله. أما المسيحية فنجد فيها أن الله هو الذي يبحث عن الإنسان، ولا يطلب منه أن يعمل شيئًا بل يقول له: «كل شيء قد أُعِد».
الفرق بين اليهودية والمسيحية: نذكر البعض منها ولنلاحظ أنها أشياء لا يمكن خلطها ببعضها.
أ) من جهة الدعوة: في اليهودية أرضية (خروج3: 8)، وفي المسيحية سماوية (عبرانيين3: 1).
ب) من جهة البركات: في اليهودية أرضية منظورة وملموسة (تثنية28)، وفي المسيحية بركات روحية (أفسس1: 3).
ج) من جهة السلوك: في اليهودية بحسب الناموس واللعنة لمن لا يعمل به (غلاطية3: 10)، وفي المسيحية بالروح (غلاطية5: 16) الذي يعين ضعفاتنا.
د) من جهة السجود: في اليهودية له كهنوت وذبائح وله مكان مُعَيَّن (تثنية12)، وفي المسيحية بالروح والحق (يوحنا4: 22-24) وحيثما اجتمع المؤمنون باسم المسيح.
3. من يشرب العتيق لا يريد الجديد
لماذا؟ في مجال الأعمال (العتيق)، هناك فرصة لتحقيق الذات والظهور أمام الآخرين والافتخار بديانة موروثة من الأجداد ومُسَلَّمة بسلطان بشري. ديانة لا تتطلب إيمانًا حيًّا وعلاقة حقيقية مع الله بل هي خالية من الحق، ولا مانع من وجود بعض الحقائق فيها. أما في الجديد (النعمة) فلا بد من القول: «ليس ساكن فيَّ أي في جسدي شيء صالح»، والحكم المستمر على الذات؛ أمور يرفضها الإنسان الطبيعي فيقول: العتيق أطيب وأفضل.
صديقي، إن كنت تحاول إصلاح نفسك فليتك تكُفّ عن ذلك، فقد قال الرب «هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟ فأنتم أيضًا تقدرون أن تصنعوا خيرًا أيها المتعلمون الشر» (إرميا13: 23)! بل تعالَ كما أنت للمسيح فتختبر المكتوب: «إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مَضَت. هوذا الكل قد صار جديدًا» (2كورنثوس5: 17)!