في حوار تليفزيوني مع رئيس تحرير جريدة مصرية يومية هي الأكثر توزيعًا خلال السنوات الثلاث السابقة، سُئِل رئيس التحرير صغير السن عن سر نجاحه ووصوله بالجريدة لهذا المستوى من النجاح في خلال وقت قصير، فكانت إجابته غريبة جدًّا لدرجة أنها أدهشت مذيعة البرنامج حتى إنها لم تتمالك نفسها من الضحك والتعليق كثيرًا على هذه الإجابة عدة مرات خلال الحوار معه.
لقد أجابها رئيس التحرير: “أعتقد أن سر النجاح هو ما أفعله في بداية كل يوم فور الاستيقاظ من النوم.”
فسألته المذيعة مستفسرة أكثر: “وما الذي تفعله في صباح كل يوم؟”
أجاب بابتسامة توحي بطرافة ما سيقول: “أقف كل صباح أمام المرآة وأقول لنفسي: "أنت ولا حاجة"!”
ضحكت المذيعة بشدة ثم تمالكت نفسها وسألته: “ولماذا تفعل ذلك؟”
أجاب: “لعدة أسباب؛ السبب الأول أنها نصيحة سمعتها من شخص أكبر مني سِنًّا وكان يسبقني في نفس المجال وقد كان ناجحًا جدًّا في عمله، والأمر الثاني هو أنني أريد ألا أتعالى على من هم حولي بسبب الكرسي الذي أجلس عليه لأنني يومًا سأتركه والكرسي لن يدوم، أما السبب الثالث والأهم هو أنني فعلاً ولا حاجة.”
قارئي العزيز، أعتقد أن هذا الشخص صادق في ما يقول، لكنه يعرف فقط نصف الحقيقة؛ وهي أن الإنسان في ذاته لا يساوي شيئًا. وسر نجاح كثيرين في هذا العالم هو أنهم أدركوا هذه الحقيقة جيدًا وظلوا بسطاء رغم ما وصلوا إليه، ولم يتعالوا على الناس من حولهم. وكما قلت لك، إن هذه هي نصف الحقيقة والتي توصَّل إليها كل رجال الله الأمناء والذين استخدمهم عبر العصور المختلفة. فرجل الله موسى مثلاً أدرك هذه الحقيقة في الثمانين من عمره وهو في البرية وحيدًا هاربًا. اسمع ماذا قال للرب بعدما تعلم هذا الدرس: «من أنا حتى أذهب إلى فرعون؟... لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس» (خروج3: 11؛ 4: 10). وحتى اللحظة التي نطق فيها موسى بهذه الكلمات كان هو أيضًا قد وصل لنصف الحقيقة فقط.
بل هذا عين ما حدث مع إرميا النبي، فاسمعه أيضًا يقول: «آه يا سيد الرب، إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد» (إرميا1: 6). وهكذا بطرس نراه أيضًا يقول للناس بعد شفائه الرجل الأعرج عند باب الهيكل: «لماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي؟» (أعمال3: 12). وأسوق إليك بعضًا مما قاله بولس الرسول في رسائله يؤكد لنا أنه وصل لنفس الحقيقة: «وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة... فمن هو بولس؟» (1كورنثوس2: 3؛ 3: 5). وبالطبع لا تفوتنا كلمات داود وهو على كرسي المملكة ورغم هذا نسمعه يقول للرب: «من أنا يا سيدي الرب، وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا؟» (2صموئيل7: 18).
لقد كان كل هؤلاء يعرفون جيدًا أنهم لا شيء على الإطلاق، وبالطبع كان كلٌ منهم يقول لنفسه عن اقتناع ويقين: “أنت ولا حاجة!”
أما النصف الآخر من الحقيقة والذي يجب أن يميز أولاد الله عن غيرهم فهو أن الله هو لهم كل شيء. فنصف الحقيقة الأول، والذي يعرفه البعض من أهل العالم، أننا لا شيء. أما النصف الآخر والذي عرفه بعض رجال الله هو أن الله هو كل شيء بالنسبة لهم. فقد علم الرسول بولس الحقيقة كاملة لذا نجده يهتف من قلبه: «ولكن بنعمة الله أنا ما أنا» (1كورنثوس15: 10)، و«أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (فيلبي4: 13). وهذه هي نفس الحقيقة التي أدركها موسى في الأربعين سنة الأخيرة من حياته، وهي ذات الحقيقة التي تعلمها الكثيرون من رجال الله.
فليت الرب يفتح عيوننا على هذه الحقيقة الرائعة التي هي بمثابة مفتاح لحل الكثير من مشكلاتنا! فإذا اقتنعت بأنك لا شيء وأن الرب هو كل شيء فلن تخشى شيئًا، كما قال بولس الرسول: «لكنني لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي» (أعمال20: 24). وإذا اقتنعت بأنك لا شيء فلن تحقد أو تحسد أو تُصاب بالغيرة الجسدانية. لن تبحث عن تحقيق ذاتك ورغباتك ومطامعك. لن تغضب إذا ظُلِمتَ، ولن تثأر إذا جاءتك الفرصة. لن تخاصم أخاك، ولن تعادي من يعاديك، بل ستجد الكثير من تعاليم الكتاب، والتي كنت تراها في الماضي مستحيلة التنفيذ، ستجدها سهلة جدًّا أمام هذه الحقيقة الغالية. فقط عليك أن ترى الحقيقة: أننا لا شيء وأن الرب هو كل شيء.
في الختام أذكر لك جزءًا غريبًا ورد في نهاية الحديث التلفزيوني مع رئيس التحرير فقد سألته المذيعة: “كيف تتوقع نهاية هذا النجاح؟” أجابها رئيس التحرير بدون تفكير: “أتوقع نهاية حزينة... ولست أعلم لماذا، لكن هذه هي توقعاتي!”
وهذه أيضًا حقيقية أخرى، أخي الحبيب، أن كل من يصل لنصف الحقيقة الأول هو شقي وبائس ومسكين، أما من يجد في المسيح نصيبه، ومن يثق أن الرب يسوع هو كل شيء بالنسبة له، فسوف تكون الراحة من نصيبه. سيكون مستقيمًا في كل طرقه، مُتَّزنًا في أفكاره، يُشع وجهه سعادة وطمأنينة وسلامًا، ولن يعاني من الشعور بالنقص أو صغر النفس لأنه يعرف ما له في المسيح.
صلِّ معي في كل يوم أن يعطينا الرب نعمة لا لنقف أمام المرآة، لكن لكي نقف أمامه بخشوع وتقدير وكلٌ مِنَّا يقول لنفسه: “أنت ولا حاجة!” ثم نرفع أعيننا نحوه ونهتف من أعماق قلوبنا: “وأنت يا سيدي كل شيء لي، ولست أريد معك شيئًا!”