في فجــر عــــ2011ـــامٍ دامٍ
شَقشَق فجر عام جديد على البلاد، لا بصدح البلابل وأمنيات الخير كما يُرجَى، بل على صراخ وعويل، وفاجعة هزَّت الصغير والكبير، وآلمت القاصي والداني. ولا أعتقد أني في حاجة لأن أقصَّ ما حدث؛ فمن ناحية لا أعتقد أن هناك من لم يدرِ به بكل تفاصيله التي وقعت في الإسكندرية أو في سمالوط، ومن الناحية الأخرى لا أريد أن أزيد نفسي ولا قارئي حزنًا على حزنٍ ووجعًا على وجعٍ بإعادة سرد التفاصيل الدامية. على أن هذا بكل تأكيد لا يعني ألا نقف هنيهة لنلتقط رسالة هذا الحدث لنفوسنا، وأجتهد أن أشاركك باختصار بعض أفكاري الكثيرة، وأتركك أنت لتستخلص لنفسك المزيد.
تعلمون أني قلت لكم
في حديثه الأخير مع تلاميذه، قبل انطلاقه للصليب، وهو يُنبِئهم بما سيأتي عليهم، من مُنطلق علمه بكل شيء، قال الرب لتلاميذه: «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً ِللهِ»، ثم أردف: «كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا16: 2-4).
ولعلنا نرى هذه الساعة الآن؛ فما بالنا مستغربين؟! أما سبق وأنبأنا الصادق الأمين بذلك؟ بل ألا يدعونا ذلك لأن نثق أكثر في سيدنا الذي يعلم منذ البدء الأخير؟ ولأن يزيد يقيننا أنه الله العليم بكل شيء حتى قبل أن يحدث؟
ولقد قال الرب في نفس الحديث: «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ»، ونحن نقبل كلامه هذا بالطريقة ذاتها التي بها نقبل كل وعوده. ولا ننسى أنه أكمل بالقول: «وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يوحنا16: 33). لم يغلبه بالقوة ولا العنف، لكنه غلبه بأنه لم يخضع لطريقة العالم ومبادئه، بل لمشيئة الآب، لذا لم يكن للعالم ولا لرئيسه شيء في الرب (يوحنا14: 30).
إن لم تتوبوا...
في مرة تعرَّض فيها بعض الجليليين لمذبحة على يد بيلاطس الشرير، قال فيها السيد تعليقًا: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ». فمثل هذه الأحداث دائمًا هي دعوة من الله للتوبة لجميع معاصريها. فبدل أن نغوص في خضم تخمينات الناس عن الأحداث والأسباب، علينا أن ندرك أنها فرصة لنا لنعود بتوبة قلبية صادقة للرب عن كل تقصيراتنا وخطايانا، ولنصنع أثمارًا تليق بالتوبة، «وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا» (اقرأ لوقا13: 1-9).
شَرٌّ بِشَرٍّ؟!
في داخل الإنسان، بسبب طبيعته الساقطة، ميل للانتقام. وهذا ما شرع فيه البعض ظنًّا منهم أنه دفاع عن المسيح والمسيحية!! لكن كلمة الله تعلِّمنا: «أَنْ لاَ يُجَازِيَ أَحَدٌ أَحَدًا عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ، بَلْ كُلَّ حِينٍ اتَّبِعُوا الْخَيْرَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ» (1تسالونيكي5: 15).
واسمع نصيحة بطرس، الذي يومًا استخدم العنف ضد عبدٍ ممن جاءوا ليتمموا أكبر ظلم بالقبض على الرب، وكادت النتيجة أن تكون كارثية لولا تدخل الرب، لكنه (أي بطرس) بعد أن تعلَّم الدرس الصحيح ينصحنا بالروح القدس بالقول: «غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرّ بِشَرّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِالْعَكْسِ مُبَارِكِينَ... لأَنَّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ الْحَيَاةَ وَيَرَى أَيَّامًا صَالِحَةً... لِيُعْرِضْ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْنَعِ الْخَيْرَ، لِيَطْلُبِ السَّلاَمَ وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ» (1بطرس3: 9-11).
وفوق الكل لقد علَّمنا السيد نفسه: «لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ... أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ... لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟... فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متى5: 38-48). فإن أردنا أن نُظهر أننا أبناء الآب السماوي (وهذا امتياز “المسيحي” الحقيقي) علينا أن نفعل ما سبق ذكره. وإن قلنا إننا أتباع المسيح (وهذا أصل اللقب “مسيحي”) فعلينا أن نطيع وصيته ونتعلم منه لأنه «وديع ومتواضع القلب» وهو «رئيس السلام». تذكَّر أنه لم ينتقم من صالبيه، بل طلب لهم الغفران (لوقا23: 34). وحسنًا قال أحد الأفاضل: “إن اليد التي تَرفَع الصليب لا ترشق أحدًا بالحجارة”.
أعجب ما سُمع!
كان أعجب ما سُمع من أعاجيب قيلت وسط هذه الأحداث هو هتاف المتحمسين: “بالروح بالدم نفديك يا صليب”. أتسمح لي أن أخاطب عقلك للحظة؟ هل يُفدَى (بضم الياء) الصليب أم يَفدِي (بفتح الياء)؟! إن الصليب كان الوسيلة التي اختارها المسيح مُخَلِّصنا ليفدينا عليه بدمه الكريم. فمن العبث أن نقول إننا نفدي الصليب، ومن الإهانة لدم المسيح ذكر أيَّ دمٍ آخر في المشهد! نعم نحن على استعداد أن نفقد كل ثمين وغالٍ، حتى الحياة نفسها، من أجل المسيح والأمانة له وخدمته والشهادة عنه، لكن ليس من أجل انتقام، ولا حكاية فداء لا قِبَلَ لنا بها.
دروس من حبقوق
تعرَّض حبقوق النبي لظروف مشابهة، وأدعوك لقراءة سفره في العهد القديم فستجد الكثير من الدروس النافعة:
* ستعرف أنه كان يذهب بِحَيْرَتِه دائمًا إلى الرب في صلاة (1: 2-4؛ 2: 1)، لا إلى الناس وتحليلاتهم. وليتنا نتعلم أن تقودنا حيرتنا وظروفنا إلى صلاة أكثر!
* ستجده يجد ضمانه في إلهه الحي الأبدي (1: 12)؛ فهو الذي قال: «أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا14: 19).
* ستراه يتعلم أن ينتظر إتمام كلام الله في ميعاده (2: 2، 3). وليتنا نتعلم درس الصبر والانتظار، فأمور الله تتم في توقيته هو لا توقيتاتنا نحن!
* وستسمعه مُصَلِّيًا صلاة حمد وتمجيد لإلهه (3: 1-14). أو لا يستحق مهما كانت الظروف؟!
* ثم بعد كل شيء، ورغم كل الظروف المعاكسة، ينشد أنشودته الخالدة: «فَمَعَ أَنَّهُ (ويتبعها بقائمة من الظروف الصعبة)... فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي. اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي» (3: 17-19). لقد تعلَّم أن مصدر فرحه ليس الظروف التي سريعًا ما تتغير، وليس من شيء يأتي من هذه الحياة التي تنتهي؛ بل من الرب الثابت الذي لا يتغير. كما وتعلَّم أن الرب الذي جهَّز الغزلان بأرجل تعرف السير في الطرق الوعرة والجبال المُشَعَّبة التي تعيش فيها، قد جهَّز المؤمن بكل ما يُمَكِّنه من العيش في أي ظروف يسمح بها الله في طريقه.
ليتنا نعي الدروس، وليت تلك الدروس تُحفَر في دواخلنا فلا ننساها كما نسينا الكثير قبلها! وليتنا نحيا لسيدنا بأمانة ما بقي في أعمارنا، وهو ليس بكثير على أية حال!