أتذكَّر يوم كان مدرسي الفاضل يشرح لنا كيف استنتج السير اسحاق نيوتن قانون الجاذبية الأرضية عندما سقطت على رأسه تفاحة من شجرة جلس تحتها، قال يومها مداعبًا أحد الزملاء: “طبعًا انت يا فلان لو مكانه ووقعت التفاحة على رأسك ستأكلها وكأنّ شيئًا لم يكن”. قهقه الفصل كله، ثم تحول مدرسي للجد قائلاً: “أنصحكم نصيحة العمر: العاقل من يتعلم من كل ما يحدث حوله؛ من المشاهدات الطبيعية، والأحداث، ونجاح الآخرين، بل وأخطائهم أيضًا.. استخرج درسًا من كل ما يمر بك سيقودك ذلك للأمام دائمًا”. من يومها أجتهد أن أفعل.
وازداد اقتناعي بأنه لا بد أن نتعلم مما يحدث حولنا من ملاحظتي أن الرب - تبارك اسمه - قد حرَّض تلاميذه على فعل ذلك؛ فقد أمرهم أن ينظروا إلى طيور السماء وزنابق الحقل ليتعلموا درسًا (متى5: 24-33)، كما واستخرج تحريضًا هامًا من حوادث مأساوية معاصرة (لوقا13: 1-5)، بل والكثير من أمثاله كان بطريقة الاستنتاج هذه.
لذلك، وجب أن نقف وقفة المتعلِّم أمام الأحداث التي تمر بها بلادنا، بل ومنطقتنا، هذه الأيام. تلك الأحداث التي غيَّرت الكثير وقلبت الموازين.
لقد تسارعت أحداث 2011 منذ دقائقها الأولى، ثم 25 يناير.. جمعة الغضب.. موقعة الجمل.. 11 فبراير... وأعتقد أن عينيك طارتا - مثلي - على الأخبار، وتلهفت أذناك على كل جديد، سمعت وقلت وناقشت واتفقت واختلفت على مسميّات هذه المرحلة (“الثورة”، “النظام”، “الفلول”، “التكنوقراط”، “الأجندات”، “الدستور”... الخ)، وخفق قلبك مع الأحداث قلقًا وتلهفًا وتساؤلاً؛ كيف لا والعالم كله كان متابعًا مراقبًا منتظرًا؟ ولأني لا أحسب أن واحدًا من قرائي قد فاته متابعة هذا الزخم من الأحداث بالتفصيل، فأرى أنني لست بحاجة لإعادة سردها، ولأن الدروس كثيرة تضيق بها الصفحات؛ فسأعدو مسرعًا لها، قدر ما تسمح السطور، تاركًا إياك بعد ذلك لتلقط لنفسك المزيد (ارجع إلى ص26 لتجد بعض الشواهد المساعدة).
سلطان الله
اختلف الناس على تفسير وتحليل، بل وعلى تسمية، ما حدث. فمنهم من قال “الثورة نجحت لأن...”، وآخرون قالوا أن “النظام سقط لأن...”، وآخرون أعطوا لما يحدث تفسيرات ثالثة ورابعة؛ والكل أصبحوا خبراء سياسيين هذه الأيام!!
فإن كنت قد ارتبكت - كما ارتبكت أنا أيضًا يومًا - فأدعوك أن تشاركني ما فعلت بالعودة لكلمة الله. وسأكتفي باللجوء لسفر واحد فقط، هو سفر دانيآل (4: 37؛ 2: 20-21؛ 4: 17، 24، 32) أنار لي الرؤية كثيرًا فرأيت الأمور بمنظور أعلى من مستوى هذه الأرض.
«الَّذِي (أي الله - تبارك اسمه) كُلُّ أَعْمَالِهِ حَقٌّ وَطُرُقِهِ عَدْلٌ، وَمَنْ يَسْلُكُ بِالْكِبْرِيَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذِلَّهُ». وهل يشك عاقل، في ضوء الأحداث، في عدل الله وجزائه الحق؟ فإن كان «الرَّبُّ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَعَظِيمُ الْقُدْرَةِ، وَلكِنَّهُ لاَ يُبَرِّئُ الْبَتَّةَ (لا يتغاضى عن الخطإ)» (ناحوم1: 3). أوَ لم يذل السالكين بالكبرياء مُنزلاً إياهم من كراسيهم؟ قليل من الصور المنشورة في الأخبار ومقاطع الفيديو على الإنترنت تؤكد لك ذلك.
«لِيَكُنِ اسْمُ اللهِ مُبَارَكًا مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ... هُوَ يُغَيِّرُ الأَوْقَاتَ وَالأَزْمِنَةَ. يَعْزِلُ مُلُوكًا وَيُنَصِّبُ مُلُوكًا». لقد قال كلمته في وقته، ونفذت هذه الكلمة، بالرغم من مكابرة البعض وأخطاء البعض الآخر. وهذا أدقّ تفسير للأحداث بالنسبة لي.
وقد كان هذا كله «لِكَىْ تَعْلَمَ الأَحْيَاءُ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ، فَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ». ولأن هذا العلي صاحب السلطان هو إلهي، وسندي، وعضدي، وقوتي، وحصني، وكل شيء لي؛ لذا لن أخاف من المستقبل رغم ضبابيته، ولن ترعبني المخاوف رغم وجودها، ولن أغرق في بحر من افتراضات قد تحدث، ولن أزعج رأسي بآراء الناس وتحليلاتهم؛ فسيدي يمسك الأمر كله، وفي هذا كل الضمان لي.
بالحكمة إنت وحدك ماسك زمام الأمر
كل الأمور بيدك وأمين بطول العمر
ليك الكلمة الأخيرة مهما قالوا ف كلام
عالي وإيدك قديرة وقلبك مليان حنان
المتغيرات
واحدة من أقوى الظواهر التي لفتت نظري هي تغيُّر الثوابت، أو إن شئت الدقة ما اعتبرناه نحن ثوابتًا. فالكثيرون كانوا ينظرون لبعض الناس في مراكزهم القيادية على اعتبار أنهم ثوابت لا يغيرها إلا الموت؛ لكنهم سقطوا سقوطًا عظيمًا، وسقطوا أسرع مما يتخيل أحد!
والأغلبية تصوَّرت أن المال ثابت يحمي صاحبه كمدينة حصينة (أمثال 18: 11)، لكن كما قال أحدهم يومًا: “المالُ مالَ، والذهبُ ذهبَ، والفضة فُضَّت”، نعم لقد أثبتت لنا الأيام الفائتة أن المال لا ينفع ولا يصلح الاستناد عليه!!
أضف إلى ذلك المراكز والمقتنيات، الممتلكات والمقتنيات، البيوت والحصون، الأصحاب والعلاقات، و... و...؛ وكلها تزعزعت.
لخَّص بطرس هذا الأمر بالقول «كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ» (1بطرس1: 24، 25؛ إشعياء40: 6-8؛ مزمور 37: 1، 2).
فعلام تضع قلبك؟! مال.. سلطان.. مركز.. قوة.. مؤهِّل.. أصدقاء.. عمل مرموق.. الكل زائل يا عزيزي. كل ما ارتبط بالأرض زائل لارتباطه بزائل. وكل ما له بداية له نهاية.
لذلك جدير بنا أن نصغي إلى نصيحة المسيح «لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ (فالأشياء تفنى بحكم عوامل التعرية فتصل إلى نهايتها)، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ (والأشياء أيضًا قد تختفي فجأة بفعل فاعلٍ). بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ (ففي السماء لا بداية ولا نهاية عند الله السرمدي)، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ (فلا وجود للشر ولا الأشرار هناك)، لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا (وما أروع أن تكون قلوبنا في السماء!)» (متى6: 19-21).
الفساد
انتشرت، في خضم الأحداث، تعبيرات “محاربة الفساد”، “محاكمة الفاسدين”، واحتل “الفساد” مرتبة هامة في كمِّ حديث الناس عنه. والحقيقة أن الفساد أمر لا يُحتمل! بصفة خاصة عندما يكون بالقدر المرعب الذي كشفت عنه الأحداث.
لكن دعني أتوقف هنيهة عند تعريف الفساد عند الناس، فلقد لفت نظري أن الأغلبية تُجمع على أن “الفاسد” هو ذاك الذي سرق مبلغًا ضخمًا يقدَّر بالمليارات، أو هو من أساء استغلال وظيفته بشكل كبير أضرّ بالمصلحة العامة ضررًا بالغًا. ولاحظت أنه، في ظل الفساد الرهيب الذي يتحدثون عنه، لم يتكلم أحد عن “صغار الفاسدين”، الذين يكتفون بسرقة الآلاف أو ربما عشرات الآلاف فقط! أو الذين يخطئون أخطاءً يعتبرها البعض بسيطة.
لكن أدعوك للعودة إلى كلمة الله، لنجد التقرير الخطير: «أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ، لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ». وإن أكملت معي القراءة لوجدت مظاهر الفساد عند الله على شاكلة: «حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سِمُّ الأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً (لاحظ أن البداية بخطايا الكلام من سباب ومكر ومؤامرات ونميمة؛ الأمور التي يستصغرها الكثيرون!). أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ. فِي طُرُقِهِمِ اغْتِصَابٌ وَسُحْقٌ. وَطَرِيقُ السَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ. (على أن الأهم هو أنه:) لَيْسَ خَوْفُ اللهِ قُدَّامَ عُيُونِهِمْ». (رومية3: 10-12؛ مزمور 14: 1-3، مزمور 53: 1-3).
وأحد تعاريف “فساد” شيء ما، هو: “فقدان الشيء لخواصه الطبيعية بحيث يصبح غير صالح لأداء الغرض المفروض من وجوده”. للتبسيط أستخدم مثالاً بسيطًا: متى نقول عن برتقالة إنها “فسدت”؟ حينما يتغير لونها، أو تظهر بها بؤر عفونة وتتغير رائحتها (تفقد خواصها الطبيعية)؛ فتصبح غير صالحة للأكل (الذي هو استخدامها الطبيعي).
وبناءً على تقرير الكتاب «الْجَمِيعُ ... فَسَدُوا» والتعريف السابق، دعنا نتناول بعض الأمثلة:
ولأبدأ بمثل قريب من كثيرين من القراء (“ومن غير زعل”)، ما رأيك في طالب يغشّ في الامتحان؟ أليس هذا فسادًا؟! فمن المُفترض أن نجاح طالب في امتحان يعني أنه ذاكر، واجتهد، وفهم، وأصبح قادرًا على استخدام هذه المادة الاستخدام الصحيح. لكن إذا نال درجات النجاح (ولا أقول “نجح” طبعًا) بالغش، فقد تغير شكل النجاح الطبيعي (وهو أن الطالب قد حصَّل هذه المادة جيدًا)، وما عاد صالحًا للاستفادة منه بتطبيق المادة تطبيقًا سليمًا. فبتطبيق التعريف، هذا فساد!!
وبالمثل..
إذا قصَّر عامل أو موظف في عمله، هذا أيضًا فساد.
إذا أخذت ما هو ليس حقَّك، ماديًا (من ممتلكات) أو معنويًا (من مدح أو كرامة)؛ هذا أيضًا فساد.
عندما تسيء إلى شخص ما (بالكذب أو بالنميمة) فتقتله معنويًا.. هذا فساد.
عندما لا تُسالم الآخرين، وتصبح صانع مشاكل بدلاً من صانع سلام.. هذا فساد.
دخولك إلى مواقع إنترنت نجسة.. فساد.
كلمات المكر التي تقصد بها غير معناها.. فساد.
السباب والكلمات الشريرة.. فساد.
النظرة الشريرة.. فساد.. فساد.
أوَ تعلم عزيزي أنه إن فرضنا جدلاً أن كل ما سبق ليس فينا (!!)، فما نزال نُعتبر فاسدين؟!!
لقد خُلقنا “على صورة الله وشبهه” أدبيًا (تكوين1: 26)، فهل ما زلنا على تلك الصورة أم تغيرنا؟! ولقد خلقنا الله ليتمجد فينا (إشعياء43: 7)، فهل هذا واقع؟ بل وبعد الإيمان يقول عنا الكتاب «مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 10)؛ فهل ندّعي أننا نعيش بحثًا عن خطة الله لحياتنا لتنفيذ هذه الأعمال الصالحة؟ هل الله في حساباتنا في كل شيء في الكبيرة والصغيرة، ما أُعلن وما استتر؟
وإذا علمنا أن “الفساد” عكس “الصلاح”؛ فلنتساءل: هل نبحث عن الصلاح لنفعله أم نندرج تحت قائمة «ليس من يعمل صلاحًا»؟ هل يرى الناس أعمالنا الحسنة فيمجدوا أبانا الذي في السماوات؟ أم فسد الملح وخبا النور (متى5: 13-16)؟
وهل أحتاج أن أطرح المزيد من الأسئلة، وهي كثيرة، في هذا المجال، أم كل واحد فينا يعرف ضربة قلبه (1ملوك8: 38)؟
في ضوء ما تقدَّم، دعني أستعير عنوان كتاب شهير فأقول “يا عزيزي كلنا فاسدون”.
أعتقد أن بعض لحظات الصدق مع النفس ستجعلنا ليس فقط نُقِرّ بالحقيقة «هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور51: 5)، بل في اتضاع نشارك ذاك الذي قال: «فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ» (رومية7: 18).
ليت صلاتك تكون مع كاتب المزمور: «اِرْحَمْنِي... امْحُ مَعَاصِيَّ. اغْسِلْنِي... طَهِّرْنِي... فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ... قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ،وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي».
مرة أنزل الرب إرميا إلى صانع الفخار ليعلِّمه درسًا عمليًا، عندها كانت مشاهدته: «فَفَسَدَ الْوِعَاءُ الَّذِي كَانَ يَصْنَعُهُ مِنَ الطِّينِ بِيَدِ الْفَخَّارِيِّ، فَعَادَ وَعَمِلَهُ وِعَاءً آخَرَ كَمَا حَسُنَ فِي عَيْنَيِ الْفَخَّارِيِّ أَنْ يَصْنَعَهُ. فَصَارَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلاً: أَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصْنَعَ بِكُمْ كَهذَا الْفَخَّارِيِّ؟» (إرميا 18: 4). نعم يستطيع. ونحن علينا أن نطلبها بصدق:
آتي إليك بكل فسادي ثقتي في نعمتك ويديك
لا لليأس ولا للماضي قلبي اتجه الآن إليك
عُد واصنعني وعاءً آخر مثلما يحسن في عينيك
الثوابت بتتغير وما يبقى غيرك وحدك العلي صاحب السلطان
بطّلت قلبي يروح لغيرك؛ انت احتياجي وعندك وحدك الأمان
جايلك مكشوف قدَّامك وعارف قلبي قدّ إيه بالفساد مليان
الفكر والفعل فسدان والنظرة والحركة واللسان
جايلك ومشتاق لثورة تِعدل كياني بكلمتك
محتاج لتغيير حقيقي تعمله فيَّ نعمتك
يرجَّعني تاني لسكِّتك واعيش حياتي ف خطتك
وبالأعمال الصالحة اللي خلقتني ليها أمجِّدك