سمعتها من أبناء جيلي، قالوها عندما زكم الفساد الأنوف وتخطّى مداه “الُركَب”، عندما انفضح “الشريف” وانهار “العز”، عندما كره “الحبيب” وظلم “العادل”!!!! فكان الهتاف المدوي: الشعب يريد.
سمعتها من شعب أحبه، جدوله اليومي كان: مظاهرات صباحًا، خِطابات ليلاً، حِراسات فجرًا!! بعضهم يريد معرفة الراجل اللي ورا...، والآخر يريد تغيير بلوفر الراجل الذوق...! لكن جميعهم يريد تفسير الخطاب الهلامي: دقت ساعة الزحف.. بيت بيت.. “زنجة زنجة”!! فكان الرد الساخر: الشعب يريد...
طوال 18 يوم لم نسمع سواها، في كل مكان وبأي عنوان، حتى تناقلها منا الجيران! ولأنها جملة غيَّرت التاريخ، وتُغيِّر الآن الجغرافيا! ولأنها ارتبطت بالشارع ومن يسكنه؛ فدعنا عزيزي نتأمل فيها، لعلنا نهضم دروسها، ونكشف أسرارها!
الشعب يريد ... والحاجز!
تعيش الشعوب المغلوبة على أمرها، خلف حاجز كبير من الخوف والمجهول؛ حاجز بناه الحاكم وحاشيته، وعلَّته الشعوب بنفسها؛ فالحاجز المرعب ليس بقوته العسكرية لكن بهيبته النفسية؛ التي تمنع الناس من الكلام أوالكتابة أو التعبير عن الرأي.
وظللنا نحن مثلهم حتى 25 يناير، حين هب الشعب يحطم حاجزه بيده؛ فانهار جدار الخوف تحت أرجل الشعب، وانصهرت رهبة المجهول أسرع من احتراق العربات الزرقاء! وصرخت الملايين: الشعب يريد.
عزيزي الثائر، هل تعلم أن بداخلك حاجزًا روحيًا ونفسيًا لا يقل قسوة وضراوة عن هذا الحاجز؟! حاجز بنيته أنت بنفسك، من مجموعة من الأوهام وأنصاف الحقائق التي سمعتها أو كوَّنتها عن الله خالقك، فظننت أنه بعيد عنك رغم أنه «قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ» (مزمور145: 18)، وأنه يرفضك رغم أنه «السَّيِّدَ لاَ يَرْفُضُ إِلَى الأَبَدِ... يَرْحَمُ حَسَبَ كَثْرَةِ مَرَاحِمِهِ» (مراثي 3: 31، 32)، وأنه لا يحبك مع أنه قالها صراحة «أحبهم فضلاً» (هوشع 14: 4)، وأنه لا يريدك رغم أنه «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تيموثاوس 2: 4).
إذًا فحاجزك ليس إلا وهم، وضعه إبليس أمامك لكي يمنعك من الاقتراب لإلهك والتمتع به. لذا أدعوك أن تحدِّد بنفسك ميعاد “ثورتك”، وتحطّم هذا الحاجز في محضر الله، وتعبِّر عن احتياجك العميق له قائلاً: يارب أنا أريد.. أريدك أنت.
الشعب يريد ... والاستثناء!
القاعدة العامة لثورات الشعوب أن الشعب يريد التغيير والإصلاح، والحاكم نفسه لا يريد؛ حفاظًا على منصبه أو كرامته أو ملياراته! فيتعامل معهم كقلة مندسة أو أصحاب أجندات أو محبي الـ K.F.C! ولكن هل لهذه القاعدة من استثناء؟
نعم، فالكتاب المقدس يخبرنا عن شعب، اختاره الله ليكون “عيّنة” لشعوب الأرض كلها
(تثنية 7: 6)، ليس لأنه أفضلهم، لكن لأن الرب بنفسه أحبهم (تثنية 7: 8)، ورغم معاملاته العجيبة معهم بمرور الأجيال، ورغم اختصاصهم بأن أرسل إليهم الأنبياء الواحد يلي الآخر، فقد صدر عنهم التقرير النهائي بلسان ابن الله شخصيًا «يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!» (متى 23: 37)!! وهنا نرى العجب: الرب الإله يريد الخير لشعبه، والشعب هو الذي لا يريد!!
عزيزي الثائر، لا تَلُم هذا الشعب؛ فربما تكون مثله. وإياك أن تتهم إلهك في داخلك أنه لا يريد الخير والفرح والغنى والحماية لك، أو أن تظنّه مثل باقي الملوك والحكام، الصالحين أو الطالحين، فهل سمعت عن حاكم «يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ» (عبرانيين 2: 17)؟! وهل قرأت عن رئيس «مُقْتَدِرًا فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ» (لوقا 24: 19)؟! وهل شاهدت ملكًا «يَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب» (متى 4: 23)؟! بالطبع لا؛ فهو الاستثناء الرائع من الحكام، بل ومن البشر أيضًا! فهو دائمًا يريد، والشعب لا يريد، المهم أنك أنت تريد!
الشعب يريد... والمشيئة!
أخيرًا عندي رسالة لك ولنفسي ولجميع شعب الرب، رسالة مفادها أن مصيرنا ومستقبلنا لا تحدّده رغبات الشعوب مهما علت؛ فالشعب لا يريد الصواب دائمًا، بل وتتغير رغباته ما بين الحين والآخر، لكن في كل مرة يقول الناس: الشعب يريد، لابد أن تعلق السماء: ولكن الرب يريد!
فمثلاً عندما سأل بيلاطس الشعب في ديمقراطية رومانية: «مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» (متى 27: 17)، ولكنّ الشعب اختار باراباس، بل واحتفلوا به كقاتل خرج من السجن (والتاريخ يعيد نفسه!)، واستدركوا يهتفون: “الشعب يريد صلب المسيح”!! ولكن، وبعد عدّة أسابيع، وأمام تقريبًا نفس الجمع، وفي حضور “فلول” الكهنة والشيوخ، وقف بطرس وقال لهم في عظته الشهيرة «هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أعمال 2: 23)، وكأنه يقول: لقد تم مُرادكم وصُلِب المسيح، ليس لأنكم أنتم أردتم، لكن لأن هذه هي مشيئة الله وخطته لخلاص البشر، فمشيئته مَن في السماء أسبق من هتافكم هنا على الأرض!
عزيزي الثائر، مهما علت الهتافات، وصلحت أو خبثت نواياها، فثق أنه لا استفتاء ولا استقواء، لا اتهام ولا أقلام، لا منشور ولا دستور، لا تعيير ولا تهجيير، يمكن أن تسبق مشيئة الله الصالحة التي ستتم كما هي، فـ«لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ» (متى 6: 10)، فوق أي لسان يقول: الشعب يريد!
لساك شاكِك وكامِش، ومخبي أوهامك في دارك
وباعد بشرَّك عن إلهك، وخوفك كاتمه في جدارك
قوم دا فيه ثورة قامت، وبقينا في عهد جديد
واتكسَّرت الحواجز واختفت بين الحديد
ونطقها الشعب من قبلك: الشعب يريد!
ورينا ياللا همتك وابدأ ثورتك وفي إيدك قرارك
دي مشيئته سلامة سِكتَك، وسلطان إلهك في جارك