بائع الخضار الذي أحترق... ورئيس الحياة الذي أحترق!!
“محمد بو عزيزي” ... اسم حُفِرَ في ذاكرة التاريخ. هو شاب تونسي بسيط من ولاية “بو زيد” في تونس، تخرج من الجامعة، ولكنه ظلَّ عاطلاً عن العمل لسنوات، وفي رحلة سعيه لكسب الرزق في ظِلْ نِسَب فقر وبطالة متزايدة، ونظام حكم لا يلتفت لمصالح شعبه، لم يجد سوى العمل بائعًا متجولاً للخضروات والفاكهة، على عربة تُدفع باليد. ولكن السلطات البلدية التي لا ترحم، بل وتحوُل بين العبد ورحمة ربِّه، قامت بمصادرة عربته لأنه لم يحصل على ترخيص لها. واعتدى عليه أفراد الشرطة، وصفعته على وجهه شرطية امرأة. وعندما توجَّه إلى مقر الولاية شاكيًا ومُحاولاً استرداد عربته - لكونها هي كل رأس ماله - أُوصدت في وجهه كل الأبواب، ومُنع من مقابلة أي مسؤول. فقام إثر ذلك بسكب مادة مشتعلة على جسده، واضرم النار في نفسه، أمام مقر الولاية، وهو يصرخ بصوت عالٍ: “كفى ... كفى”. ونتيجة الحروق الشديدة، توفى بعد أسبوعين (4-1-2011)، عقب أن زاره الرئيس التونسي السابق في المستشفى.
لم يكن يخطر ببال ذلك الشاب الفقير ذو الـ26 عامًا - وهو يرى مستقبله قد أظلِمَ، وأيامه بلا أمل، فيتخذ قرارًا بإنهاء هذه الحياة التعيسة - أنه سيكون سببًا في انطلاق شرارة ثورة شعب كامل، وزوال طاغية، في سابقة هي الأولى من نوعها في المنطقة العربية.
لقد اشتعل جسد “بو عزيزي” واشتعلت معها الاحتجاجات في شوارع ولاية “بو زيد”، ومنها انتقلت إلى ولايات أخرى لتشمل تونس كلها، وتستمر لأسابيع لتطيح في يومها الـ29 بالديكتاتور التونسي، الذي ترك البلاد هاربًا وطالبًا اللجوء لأي مكان لا يطوله فيه أحرار تونس. وانتصر الشعب التونسي في معركة الحرية ليكون الشعب العربي الأول الذي يخوض معركة من هذا النوع، ويحقِّق هذا النصر التاريخي.
مات“بو عزيزي” قبل أن يشهد يوم سقوط الطاغية، وانتصار أهله وإخوانه من شعب تونس، الذين يتسائلون الآن: “ترى هل تدري روح بو عزيزي بما يحدث الآن في تونس؟!” ووجهوا له رسالة: “لم تُضِع حياتك هدرًا ... النار التي أحرقتك تُضيء الآن وطننا، وستضيء مستقبله، وربما أضاءت أوطانًا عربية أخرى تحذو حذونا”.
لقد انتحر “بو عزيزي” ليس لأنه أراد الموت، بل لأنه أراد الحياة ولم يستطع. وتناقلت بعض مواقع الإنترنت ما قالوا إنه آخر كلمات “بو عزيزي” على صفحته على موقع الفيس بوك: “مسافر يا أمي، سامحيني، ما يفيد ملام.. لومي على الزمان ما تلومي عليَّ.. رايح من غير رجوع.. كتير ما بكيت، وما سالت من عيني دموع”.
قرأت القصة، واقشعرّ بدني وأنا أتفرس في صورته وهو يحترق. وتساءلت عن مصيره الأبدي، وشعرت بالأسى والحزن من أجله. ولكن لم أسترسل في الأحزان والأسى، فقد فاض قلبي بالحمد والسُبح، عندما تحوَّلت لأتفكرَّ في «رَبِّـي وَإِلَهِي»؛ الكريم المجيد الذي احترق من أجلي، والذي ذهب إلى الصليب - طواعية واختيارًا - ليقف مكاني، مكان المذنوبية والدينونة، وحمل في جسمه على الصليب كل عقوبة خطاياي، وكل قصاص أستحقه أنا كأجرة لآثامي، والذي مات على الصليب لكي أحيا أنا في المجد. ويا له من موضوع تأمل خاشع، لكونه ثمينًا مقدسًا!
إن نيران غضب الله، القدوس القادر على كل شيء، كانت ستلتهم نفوسنا إلى الأبد، في الجحيم، ولكن المسيح، بديلنا وفادينا، احتمل عنا على الصليب نار الغضب الإلهي الرهيب، لكي نكون إلى الأبد بمنجى مِنْ النار الأبدية العتيدة أن تنزل على جميع الذين داسوا نعمته الغنية التي لا تُضاهى.
واسمعه، بروح النبوة في مراثي إرميا1: 12، 13 يتكلَّم على لسان إرميا، النبي الباكي، قائلاً: «أَمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ تَطَلَّعُوا وَانْظُرُوا إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي الَّذِي صُنِعَ بِي، الَّذِي أَذَلَّنِي بِهِ الرَّبُّ يَوْمَ حُمُوِّ غَضَبِهِ؟ مِنَ الْعَلاَءِ أَرْسَلَ نَارًا إِلَى عِظَامِي فَسَرَتْ فِيهَا». وبسبب هذه النيران، صرخ المسيح على الصليب «انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي. يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بـِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي» (مزمور22: 14، 15).
لقد بدا المسيح وهو مُعلَّق على الصليب، وكأن كل مفصل في جسده قد انفصل، تعبيرًا عن الآلام المُبرحة التي لا تُحتمل. وقد صار قلبه، أمام نار الغضب الإلهي الرهيب ضد الخطية، كالشمع أمام اللهيب. ويَبِسَت مثل شقفةٍ قوته، إشارة إلى ضعف قوته البدنية. فالرب يُشبِّه نفسه بقطعة مكسورة من خزف الأرض؛ شقفة من إناء خزفي قد دخل النار حتى لم تعُد فيه ذرة من الرطوبة. فقد يبست قوة المصلوب في نيران العدل الإلهي. وبسبب سعير النيران، وبسبب الظمإ الشديد، لصق لسانه بِحَلقه من شدة الجفاف، حتى أنه لم يقدر أن يتكلَّم.
لقد دفع سَيِّدنا ثمن فدائنا كاملاً، ولم ينجُ ولا جزء من جسد الضامن العظيم من الاشتراك في الألم. ويا لهول ما احتمل من سعير رهيب على الصليب!! إن نار الله التي نزلت في أيام إيليا «وَأَكَلَتِ الْمُحْرَقَةَ وَالْحَطَبَ وَالْحِجَارَةَ وَالتُّرَابَ، وَلَحَسَتِ الْمِيَاهَ الَّتِي فِي الْقَنَاةِ» (1ملوك18: 38)، هي التي احتملها بديلنا القدوس على الصليب. فهو خروف الفصح الحقيقي الذي لم يكن يُطبَّخ بالماء، بل يُشوى بالنار (خروج12: 8، 9). وهذا هو فعل النار فيه. وهو إن كان أتى على كل نيران غضب الله، وأمكنه أن يقول: «قَدْ أُكْمِلَ»، لكن بعدها مباشرة أتت النهاية، حيث يقول: «وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي».
لقد ناب عنا الرب يسوع المسيح في مواجهة الدينونة والموت لكي نتمتع نحن بالبر والحياة الأبدية. شرب كأس الغضب وتجرَّع غصص الهوان لكي نتناول نحن كأس الخلاص، ونرتوي من فيض محبة الله وغنى نعمته.
أيها الأحباء: لقد احترَّق “بو عزيزي” ومات، والنتيجة انطلاق شرارة ثورة شعب كامل، وزوال رئيس طاغية. ولكن «رَئِيسُ الْحَيَاةِ» احترق ومات، والنتيجة خلاص أبدي وحياة أبدية، لكل مَنْ يؤمن به، من الخطاة الآثمين الهالكين، وأيضًا زوال الطاغية «رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ»، «ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ» (أعمال3: 15؛ يوحنا16: 11؛ عبرانيين2: 14).