محبة بالرغم من !

قد تكون سمعت أو قرأت عن حرب “ڤيتنام” الشهيرة التي استمرت 8 أعوام.  ففي عام 1965م وصلت أعداد كبيرة من القوات الأمريكية إلى هناك، وانتهت الحرب الرهيبة في 27 يناير1973م، بمعاهدة سلام بين الولايات المتحدة والقوات الڤيتنامية المحاربة.  ويقول أغلب المؤرخين إن خسائر هذه الحرب الضروس من الڤيتناميين خلال سنوات الحرب الثماني كانت مليونا قتيل وثلاثة ملايين جريح، وما يناهز 12 مليون لاجئ. أما الأمريكيون فقُدرت خسائرهم بـ58 ألف قتيل و153 ألف من الجرحى، 587 أسيرًا بين مدني وعسكري، وقد تم إطلاق سراحهم.

وأخير انتهت الخدمة الإلزامية العسكرية “لديڤيد” في “ڤيتنام” واقترب موعد عودته لبيته في “سان فرانسيسكو” بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وكم كانت سعادة الأب والأم وهما يتلقيان مكالمة التليفونية من “ديڤيد” حيث قال لهما: “سأعود عن قريب”، ففرحا جدًا وتحدثا معه عن أشواقهما الحارة إليه، وكيف مرت الأيام بطيئة ممله بدونه، وكيف كانا أغلب وقتهما يتابعان أخبار الحرب. 

وعندها قال “ديڤيد” لأبويه: “بابا...  ماما، هناك موضوع أريد أن أناقشكما فيه قبل عودتي للبيت”.  فرحَّب الأبوان.  فاردف قائلاً: “أريد أن أُحضر معي للبيت زميلي الجندي الذي قضيت معه أغلب الوقت في ساحة المعركة في ڤيتنام”.

رد الأبوان قائلين: “نعم يا حبيبي، لا بد أن يجيء معك، نحن نرحب به ونتمنى أن نراه معك”.

“بابا.. ماما، ولكن من اللازم أن أخبركما أن زميلي قد جُرح في المعركة وفَقَدَ رِجله وأيضا ذراعه، وليس له مكان آخر يذهب إليه، وأنا اريده أن يأتيَ ليعيش معنا بصفة دائمة”.

ساد الصمت للحظات مرت على ديڤيد كالدهر، ثم قال لأبيه: “ماذ قلتَ يا أبي؟  لماذا لا ترد عليَّ؟  لماذا صمتَّ ولا أسمع منك؟”. 

قال الأب، وقد لاحظ “ديڤيد” تغير صوت أبيه: “ديڤيد يا ابني، ليحضر معك، وأنا سأبحث له عن مكان آخر يعيش فيه.  أنت تعرف أن لنا حياتنا الخاصة.  إنَّ إنسانًا مُعاقًا مثل هذا سيكون ثقلاً رهيبًا وحملاً شديدًا على الأسرة لن نطيق احتماله.  أقول لك يا ديڤيد بصراحة: تعالَ ودَعَك من هذا الجريح، اتركه لحاله ليدبر أموره.  يكفينا ما فينا، تعال أنت بمفردك”.

عند هذه الكلمة وضع “ديڤيد” سماعة التليفون، ولم يسمع منه أبواه كلام آخر.  وبعد عدة أيام تلقى الأبوان من بوليس مدينة “سان فرانسيسكو” مكالمة تليفونية تخبرهما أن “ديڤيد” ابنهما قد مات إذ سقط من مكان عال، وأن البوليس يعتقد أنه انتحر.

هرع الأبوان بكل حزن وهلع لمشرحة المدينة للتعرف على جثة “ديڤيد”، ولما تعرفا على جثته كانت المفاجأة المُرَّة لهما: أنه كان قد فقد ذراعه ورجله.  وعندها فهم الأب والأم أن “ديڤيد” لم يكن يتحدث في التليفون عن صديقه الجريح والمعاق، ولكنه كان يتحدث عن نفسه، وكان يريد أن يعلم هل سيكون ثقلاً على الأسرة؟  وهل سيقبل الأب والأم وجوده معهما في البيت رغم العجز والإعاقة التي حدثت له؟!

صديقي...  صديقتي، لقد شك “ديڤيد” في قبول أحَنَّ من له في الحياة؛ أبيه وأمه.  شكَّ في حبِّهما له بسبب الإعاقة التي ألمَت به.  قد تشاركني في أن شك “ديڤيد” لم يكن في محله حينما سأل أبويه عن قبول صديقه في البيت، فمحبة الأب والأم تختلف عن محبتهما لضيف غريب، ولكن - على أيه حال - ما أن علم “ديڤيد” أن الأب والأم لا يحتملان معاق معهما في المنزل، حتى يئس من الحياة وانتحر.

لكن دعني أؤكد لك أن محبة الله لك تتعالى وتتسامى جدًا عن محبة الأب والأم كما هو مكتوب: «هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟  حَتَّى هَؤُلاَءِ يَنْسِينَ وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ» (إشعياء49: 15).  إن محبة الله لا سببية ولا غرضية؛ ليست لأجل شيء حسن فينا، لكن لأن «الله محبة» (1يوحنا4: 8).  يقول لشعبه القديم: «ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ.  بَل مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُم» (تثنية7: 7، 8).

إن محبة الله لنا هي بالرغم مما فينا كما هو مكتوب: «أَنَا أَشْفِي ارْتِدَادَهُمْ.  أُحِبُّهُمْ فَضْلاً» (هوشع14: 4).  أنظر كيف أحبنا الله رغم كل ما فينا (رومية5: 1-12):

1- كنا ضعفاء (أي عاجزين): «لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّن».  وعجز الخطية أكثر من عجز الجسد الذي كان يعاني منه “ديڤيد”.

2- كنا فجَّار: «الْمَسِيحَ ... مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ».

3- كنا خطاة: «وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا».

4- كنا أعداء: «ونَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ».

5- كنا أموات: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ».
ضعفاء وعاجزين، فجار ومتعدِّين، خطاة مذنبين، أعداء رافضين، أموات هالكين...  «لكن اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا...  مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا». 

فمحبة الله لي ولك ليست لشيء صالـح فينا، ولكن بالرغم من كل ما فينا من عيوب.  هو أحبني بالرغم من... 

فهل تأتي بين أحضان الآب المحب ولا تكون مثل “ديڤيد” الذي قاده إبليس للانتحار تحت وطأة الشعور بالنقص والعجز عندما شك في قبول أبويه له؟ 

هل تصلي معي الآن واثقًا في حب الله لك؟

صلاة:
يا إلهي الطيب يا نبع كل الحنان..
أحببتني رغم أني أشرّ إنسان..
آتي إليك فأنت تنتظرني في كل أوان..
فارحمني واقبلني وحررني
من كل قيود وأحزان..
وفرِّحني ومتّعني بك وبالغفران..
آمين