سفينتان ورحلتان..تيتانيك والست
شهد العاشر من أبريل عام 1912 حدثًا فريدًا، هو انطلاق أول رحلة للسفينة الأشهر في التاريخ “تيتانيك” من لندن قاصدة نيويورك، وعلى متنها 2200 راكبًا تقريبًا.. ولكن، ويا للأسف، فقد كانت تلك هي الرحلة الأولى والأخيرة لهذه السفينة العملاقة.. فبعد أربعة أيام من انطلاقها، اصطدمت بجبل جليدي فغرقت ولم ينجُ سوى 700 راكبًا، ولقي الآخرون حتفهم. وبغرق تيتانيك أمسى هـذا التاريخ (أبريل 1912) تاريخًا لواحدة من المآسي التي عرفتها البشرية في القرون الأخيرة.
ولكن - ويا للمفارقة - ففي نفس ذلك العام، بل ونفس الأسبوع، وبالتحديد في 12/4/1912 كان الموعد لمولد سفينة أخرى من طراز نادر.. سفينة عملاقة لم تُستخدم فيها التقنيات التكنولوجية المتقدِّمة، بل صنعتها يدا الفخاري الأعظم، فأبدعتا في صياغتها لتصبح «إناءً... نافعًا للسيد، مستعدًا لكل عمل صالح» (2تيموثاوس2: 21). وقبل أن تشرد بذهنك عزيزي القارئ إلى سفينة نظير تلك التي جلبت الموت والهلاك لركابها، أقول لك أن هذه السفينة هي “امرأة فاضلة” أرسلها الرب من هولندا لتُبحر إلى بلادنا المصرية وتخدمه فيها، ولتحمل خيرًا عميمًا للكثيرين؛ الأخت “هيلين فورهوفة”، والتي يعرفها أهل طما، بصعيد مصر، بـ“الست”. ولا تستغرب عزيزي من تشبيه هذه المرأة الفاضلة بالسفينة؛ ألم يقل كاتب سفر الأمثال أن المرأة الفاضلة كـ«سفن التاجر تجلب طعامها من بعيد» (أمثال31: 14)؟ ألم تحمل الخير، كل الخير لكثيرين في أجيال كثيرة؟
عندما كانت “هيلين” في السابعة عشرة من عمرها، سمعت للمرة الأولى عن الاحتياج للخدمة والعمل المرسلي بمصر. وللوقت تجاوبت الفتاة مع هذه الدعوة، وأبدت استعدادها للذهاب في هذا العمر الصغير. وعندما ناقشت الأمر مع والدها، خادم الإنجيل، رحَّب بالأمر، إلا أنه ألزمها بالبقاء في بلادها حتى تصل إلى سن الخامسة والعشرين، حتى تتأكد تمامًا من صدق دعوة الرب لها، ونصحها باكتساب القدرات والمهارات التي تجعلها قادرة على الاعتماد على نفسها.
وأنا أعلم أن الكثير من القراء يتراوح عمرهم حول هذا السن، والذي يبدأ فيه الشاب أو الفتاة في التفكير في أموره ومشاريعه وأحلامه الشخصية. وفي حين أن كثيرين في هذا السن قد يفكرون في السفر للخارج بحثًا عن آفاق أكثر رحابة في العمل واكتساب الثروات، إلا أن “هيلين” فكرت في السفر للخارج من أجل العطاء لا الأخذ، لتصل إلى المحتاجين والمحرومين لتسدّد الإعواز الروحية والجسدية على السواء.
وفي عام 1937، كانت المرة الأولى التي وطأت فيها قدماها مصر. وقضت حوالي السنتين بالقاهرة لتتعلم العربية. إلا أنها لم تشأ الاستمرار في القاهرة أو إحدى المدن الكبرى، لكنها وجدت في “طما”، المدينة الصغيرة القابعة في أواسط الصعيد، ضالتها المنشودة. واتخذت من أمانة الرب وصلاحه مستندًا لها في كل مراحل خدمتها، وكانت الآيتين: «أمين هو الله» (1كورنثوس1: 9) و«كثيرة أمانتك» (مراثي 3: 23) هما أقرب الآيات لقلبها واتخذت منهما شعارًا لحياتها.
ومن “طما” نَمَت خدمتها لتشمل أنحاء كثيرة من مصر، بفيض من المحبة والعطاء طوال سنوات خدمتها التي قاربت 75 عامًا، هي ثلاثة أرباع عمرها. وظلت طوال تلك السنوات مرتبطة بطما والمؤمنين فيها، حتى أنها أخبرتنا أنها عندما تكون في بلدها الأصلي (هولندا) وتحين لحظة السفر إلى مصر، كانت تقول للمحيطين بها “أنا راجعة بلدي”.
لقد حُملَّت “الست” بالكثير من البركات والخيرات لتوصيلها إلى شعب الرب في مصر. وفي سبيلها لذلك اتخذت من الرب يسوع “قبطانًا” أخضعت له دفة حياتها، و“كلمة الله” كانت “البوصلة” التي تعرف من خلالها الوجهة السليمة. ولم تزدها الأمواج والعواصف إلا استنادًا تامًا عليه، فهداها آمنة إلى المرفإ الذي أرادته.
لقد أتت حاملة الأخبار الطيبة عن محبة الله وفدائه؛ فقادت الكثيرين إلى شاطئ النجاة والأمان بمعرفة المخلِّص. عرفناها وهي «تشتغل بيدين راضيتين»، لتقدِّم كل ما تستطيع للآخرين ولم تُرد أبدًا أن تحتفظ بشيء لنفسها.
كما أتت أيضًا بالفائدة العلمية للكثيرين من أبناء طما الذين تعلموا وتخرجوا من “مدرسة النور” التي أسَّستها ليشغلوا فيما بعد مراكزًا مرموقة في أنحاء شتي من البلاد، بل وخارجها. وعلى اختلاف أطيافهم وتنوع عقائدهم، فإن جميع أهالي طما يُجمعون على حب “الست” والعرفان بالجميل لما قدَّمته لهم ولآبائهم بل وحتى لأجداد البعض منهم.
وماذا أقول عن تواجدها المستمر في الاجتماعات الروحية حيث كانت “ترسو” لتتزود بالمؤونة الروحية. ولم تنقطع عن الحضور إلا عندما تعرضت لأصابة في ساقها اعاقتها تدريجيًا عن المشي وهي في سن الـ 97. ويطول الحديث إذ نتكلم عما قامت به من خدمة متميزة وما أظهرته من الصفات المسيحية الحقة في حياتها وأقوالها وتعاملاتها مع الجميع.
لقد كانت سفيرة أمينة لسيدها طيلة حياتها ووضعت في قلبها منذ نعومة أظفارها أن تكرمه وتخدمه فجاهـدت الجهاد الحسن وعاشت حياتها كما يجب أن تُعاش الحياة. ونستطيع أن نوجز حياتها فـي الكلمات: «حياة في رضاه». وفي وقت قادم، ستقف “الست” أمام سيدها وستسمع كلمات المديح والثناء من فم الرب شخصيًا.
إنني عندما أتحدث عن هذا النموذج الرائع لشخصية اتّبعت الرب تمامًا بكل قلبها، فإنني لستُ أتحدث عن شخصية من أبطال العهد القديم، أو ممن عاصروا وعاينوا الرب يسوع، أو حتى من قديسي العصور الأولى للمسيحية، لكنني أتحدث عن شخصية معاصرة لا تزال تعيش بيننا، في نفس عالمنا.
وإني أتساءل: لقد أثرت كثيرًا بمحبتها وعطائها وتواضعها في حياة الكثيرين، ولا زالت.. فما مدى تأثُّر الآخرين بنا. وهل يتأثرون إيجابًا أم سلبًا؟ هل أظهرنا لهم صفات المسيح؟ هل قُدناهم إلى معرفته أم كنا سببًا في ابتعادهم عنه؟
ما أرجوه لنفسي وللجميع أن نأخذ من مثل هذه الحياة التقوية الرائعة نموذجًا يُحتذي به فنكرم الرب في حياتنا ونخدمه بأمانة فتكون حياتنا حياة الخصب والثمر قبل أن تمضي الفرصة وينتهي الزمان.