لقد تميَّز الرب يسوع برقة المشاعر الإنسانية، فلم يجرح أحدًا، بل كان مترفقًا بالجميع. وهيا بنا الآن نتأمل بعض المواقف من حياته التي أظهرت رثاءه لكل المتألمين ومشاركته لأحزانهم:
(1) مرة جاء إليه واحد من رؤساء المجمع اسمه يايرس. ولما رآه خرَّ عند قدميه وطلب إليه كثيرًا قائلًا «ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى فتحيا» (مرقس5: 22). فمضى معه يسوع مُقدرًا مشاعره الأبوية واحتياجه المُلّح. وفي الطريق إذا بامرأة تعاني من نزف دم منذ اثنتي عشرة سنة، جاءت إلى الرب وسط الزحام، بإيمان بسيط، ومسَّت ثوبه لأنها قالت «إن مسست ولو ثيابه شُفيت». فللوقت جف ينبوع دمها. وتوقفت المسيرة عندما سأل الرب قائلًا «مَنْ لمس ثيابي؟» شاعرًا بالقوة التي خرجت منه. فجاءت المرأة وقالت له الحق كله. وسردت له قصتها الطويلة مع المرض. لقد استغرقت وقتًا كان ثمينًا جدًّا بالنسبة ليايرس لأنه يساوي حياة ابنته الوحيدة. ولاشك أنه كان يتساءل في نفسه لماذا حضرت هذه المرأة في هذه اللحظات الحرجة؟ ألم يكن ممكنًا أن تنتظر يومًا واحدًا أو حتى ساعة واحدة؟ أنها ليست في حالة احتضار مثل ابنته. وهي تُعاني منذ زمن طويل. وبينما كان الرب يسوع يستمع إلى قصة هذه المرأة المسكينة، كان قلبه مشغولًا بالأب المسكين يحس ويشعر بما يعتمل في نفسه من خوف وقلق وحزن. وما أن انتهى الحديث حتى جاء القوم من دار رئيس المجمع يحملون الخبر الأليم قائلين «ابنتك ماتت. لماذا تُتعب المعلم بعد؟». لقد انقطع كل أمل في النجاة، فانهار الأب المسكين.
سمع يسوع لوقته هذه الكلمة واستطاع أن يُغيث المُعيى بكلمة إذ قال له «لا تخف. آمن فقط». وكانت كلمة الرب كطوق النجاة لغريق يائس. وذهب معه إلى البيت ورأى الجميع يبكون ويولولون كثيرًا. فقال لهم يسوع «لا تبكوا». ثم أمسك بيد الصبية وقال لها «يا صبية لكِ أقول قومي. فقامت ومشت. لقد استطاع الرب له المجد أن يشفى المنكسرى القلوب ويجبر كسرهم.
(2) مرة أخرى عند باب مدينة يُقال لها نايين رأى ميتًا محمولًا (لو7: 11). وكان ابنًا وحيدًا لأمه وهي أرملة. ولما رآها الرب تحنن عليها وقال لها «لا تبكي». ثم تقدم ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال «أيها الشاب لك أقول قُم». فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمه. وهنا أيضًا تلامس بحنانه مع هذه الأرملة وكفكف دموعها !
(3) أما في بيت عنيا فقد أظهر الرب رثاءه ومشاركته لمريم ومرثا بكيفية أروع (يو11). لقد مرض لعازر فأرسلت الأختان مريم ومرثا رسالة رقيقة إلى الرب قائلتين «هوذا الذي تحبه مريض». ولحكمة خاصة تأخر الرب عن الحضور حتى مات لعازر. ولما وصل إلى بيت عنيا، عند باب القرية لاقته مرثا، وفي عتاب المحبة الجريحة قالت له «يا سيد لو كنت ههنا لم يَمُت أخي». وبالمثل عندما حضرت مريم خرَّت وسجدت وقالت له «يا سيد لو كنت ههنا لم يَمُت أخي». فلما رآها يسوع تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون»، «بكى يسوع». فقال اليهود «أنظروا كيف كان يحبه»؟!. عندما تأخر الرب عن الحضور اعتراهم الشك في محبته. ولكنه بهذه الدموع الكريمة استرد ثقتهم في محبته. في الحادثتين السابقتين قال الرب يسوع للباكين «لا تبكوا. أما هنا فقد «بكى يسوع» نفسه. إنه لم يحتمل أن يرى دموع أحبائه، فبكى مشاركة لهم في أحزانهم. وكان لحنانه ودموعه أجمل الأثر في نفوس أحبائه. إنه يعرف كيف يشفي العواطف الجريحة، ويترفق بكل المنحنين ويعين كل المجربين. بعد ذلك قال يسوع «لعازر هلم خارجًا». فخرج الميت من القبر بعد أن أنتن.
(4) وأخيرًا نراه قبل الصليب، وهو يقترب من أورشليم، «نظر إلى المدينة وبكى عليها» (لوقا 19: 41). والكلمة هنا تعني أنه أجهش بالبكاء بصوت مرتفع. وهنا نرى كيف فاضت عواطفه إشفاقًا، وكيف ذرف الدموع حُزنًا على مصير هذه المدينة التي لم تعرف زمان افتقادها. إنه مرارًا أراد أن يجمع أولادها كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم يريدوا (متى 23: 37). لقد أشفق عليها من القضاء المروّع الذي كان عتيدًا أن يأتي عليها بعد أقل من أربعين سنة. هذا القضاء الذي تم على يد تيطس الروماني. إنه يُشفق على الخطاة والعصاة من المصير التعس الذي ينتظرهم. ومسرة لا يسر بموت الشرير بل يسر عندما يرجع إليه ويحيا.