مَنْ مِنَّا لا يعرف هذا الميدان الذي ذاع صيته في العالم منذ 25 يناير حتى صار أشهر ميدان في العالم. لكن أَلَم تتوقف، قارئي العزيز، أمام اسم ذلك الميدان؟ اسمح لي أن أقول لك عن نفسي إنه كلما ذُكر اسم هذا الميدان أشعر بلذة خاصة لكلمة “التحرير”. إنها كلمة رائعة في معناها؛ كلمة لها تأثير خاص على كل مُقَيَّد ومذلول، وعلى كل سجين مُكَبَّل بقيود وسلاسل. دعنا نتأمل في بعض مما يمكن أن تُذكرنا به هذه الكلمة البديعة، وأولها قطعًا:
التحرير من العبودية:
إنه المعنى الأول الذي يأتي في أذهاننا: التحرير من العبودية القاسية التي أتعبتك وأذَلَّت نفسك جدًّا. للأسف، هذا هو حال الكثيرين من الشباب اليوم، ما زالوا يرزحون تحت عبودية الخطية فـ«كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ» (يوحنا8: 34)، ويعلمون جيدًا أنهم مستعبدون ومذلولون. ومما يدعو للدهشة أنهم يدركون النهاية التعيسة الشقية التي تنتظرهم إذا استمروا على هذا الحال لكنهم لا يغيِّرون من وضعهم ولا يبغون الرجوع عن طريقهم. هم غير سعداء بل كل أيامهم شقيَّة (أمثال15: 15)، لكنهم لا يطلبون التغيير ولا يبحثون عن المُحَرِّر العظيم؛ ربنا يسوع (يوحنا8: 36)، الذي مات من أجلهم وقُيِّد كي ما يحررهم من العبودية القاسية. يجربون كل يوم ألوانًا من الخطايا لكنهم يتجرعون معها ألوانًا من الكآبة وعدم الرضَى والخوف والشعور بالهزيمة والسقوط.
لذا أدعوك الآن أن تصلِّي بثقة وإيمان في إلهك الذي يريد لك الحرية والتغيير، وبقبولك له في حياتك تستطيع الانفلات من العبودية القاسية التي تعاني منها منذ سنوات، لتنعم بالحرية الحقيقة في شخص ربنا الغالي يسوع المسيح الذي يحبك. سترى الحياة بشكل آخر ويمتلئ قلبك فرحًا بامتلاك الحرية التي حُرمتَ منها طويلاً وسترفع رأسك عاليًا وتشعر بالفخر والزهو لأنك صرت واحدًا من أولاد الله (يوحنا1: 12).
التحرير من الخوف:
بعيدًا عن نجاح الثورة أو فشلها، لكن الجميع يتفقون أن كثيرين ممن عاشوا في خوف من مجرد الكلام أو الاعتراض لسنوات طويلة قد خرجوا في الميدان وانفكت ألسنتهم ونطقوا بكل ما يختبئ في صدورهم، فعَلَت الأصوات والهتافات مُنَدِّدة بكل جرائم الفساد والنهب بلا خوف، وظهرت اللافتات الجريئة التي لا تُفرِّق بين وزير أو غفير وتدعو الجميع للرحيل دون خوف أو تردد.
والكثيرون من شباب اليوم يمتلئون خوفًا من أمور لا وجود لها. فقد استطاع عدو الخير أن يُقنعهم أن من يقرر الانفلات من بين يديه ليعيش في الحرية مع المسيح لن يجد قُوتَ يومه ولن يفرح، كما يقولون، ولن يضحك من قلبه، بل سيقضي الباقي من حياته في قيود وضوابط وقوانين صارمة لن تجعله يهنأ بحياته، وسيكون مستقبله غامضًا بلا سلام أو أمان. لذا صار الخوف من الأسباب الرئيسية التي تمنع الكثيرين من قبول المسيح في حياتهم والتحرر من الخوف الذي يملك على قلوبهم، رغم أن المسيح جاء لكي «يُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ» (عبرانيين2: 15). وهذه خدعة مُتقَنة استطاع الشيطان أن يغرسها في قلوب الكثيرين من بني البشر حتى يمنع عنهم الخير الجزيل.
والخوف لا يخصّ الخطاة البعيدين فقط لكنه، للأسف، انتشر في قلوب المؤمنين الذين اختبروا في كل الماضي صلاح الله من نحوهم وأمانته في كل الظروف، وتعلَّموا أنه مهما تغيرت الأحوال فإلهنا الحي «هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عبرانيين13: 8)، لا يتركنا ولا ينسانا. فكيف نسقط في هُوَّة الخوف من الغد أو تغيُّر الظروف والرب معنا في كل حين؟ ألا يشجعنا أنه، وقبل أن نولد، أخبرنا بأنه يعلم حال العالم الذي نعيش فيه؟ ألم يقل لنا: «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يوحنا16: 33)؟ وهل ننسى وعده لنا قبيل صعوده للسماء حين قال: «وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متى28: 20)؟ ليتنا نتحرر من خوفنا، لأن الخوف هو إيمان بالعدو أكثر من الإيمان بالله!
التحرير من المنطق:
كان المنطق، ولمدة أكثر من ثلاثين عامًا، يؤكِّد استحالة تغيُّر الأوضاع في الوقت الحالي، وإذا سألتَ من كانوا يدعون للثورة عن توقعاتهم قبل الثورة فإن سقف تطلعاتهم لم يصل أعلى من مجرد بعض التغييرات في وزارة الداخلية وبعض الإصلاحات الاقتصادية. لكن ما حدث هناك كان فوق المَنطِق، ولم يتنبأ به أو يتوقعه أحد.
وهذا هو نفس الأمر مع كل من تحرروا من عبودية إبليس وقرروا أن يعيشوا الحياة المسيحية بشكلها الصحيح، فالإيمان «هُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عبرانيين11: 1)، وهو كثيرًا ما يتعارض مع المنطق البشري والعقل الإنساني المحدود. وأمور الله لا تتعارض مع العقل لكنها تفوق إدراكه؛ لذا لا يجب أن نحسب الأمور بالعقل والمنطق فحسب لأننا حتمًا سنفشل. فمثلاً تسأل: كيف لا أخاف وكل الأمور من حولنا تدعو للخوف؟ كيف لا أخاف وأنا لا أجد من حولي شخصًا واحدًا يستطيع أن ينطق بكلمة طمأنينة واحدة تبث الأمان في قلبي؟
الإجابة بكل بساطة هي: الإيمان؛ الإيمان الذي جعل إبراهيم يخرج ويترك أهله وعشيرته وهو لا يعلم إلى أين يأتي (عبرانيين11: 8). إنه الإيمان الذي جعل الأرملة تأتي بالأوعية الفارغة وهي لا تعلم كيف ستمتلئ عن آخرها من مجرد دهنة زيت صغيرة (2ملوك4). وهو نفس الإيمان الذي جعل لليان تراشر تؤسس ملجأً للأطفال في صعيد مصر وهي لا تملك شيئًا، بل كما كتبت في مذكراتها أنها أكملت الكثير من المباني التي كانت تحتاجها في الملجإ في وقت الحرب العالمية حين كانت مصر كلها تئن تحت وطأة الحرب والاحتياج لأبسط الاحتياجات، لكن الرب تكفَّل وأفاض بالخير على تلك المرأة الضعيفة هي والأطفال الذين يثقون بإيمانهم البسيط في الإله الحي القادر على كل شيء.
نعم، إنه الإيمان الذي لا تنفع معه الحسابات البشرية أو الأفكار المنطقية لكنه يحتاج مِنَّا دائمًا أن نكون قريبين من سيدنا الغالي وراعي نفوسنا العظيم؛ ربنا يسوع المسيح، حتى نمتلئ من فكره ونتطلع نحوه بالإيمان غير ناظرين لما يحدث حولنا من هياج للأمواج ورياح عاصفة، ولحظتها سنختبر معنى وقوة التحرير.