في مؤتمر قريب لشباب المرحلة الثانوية اتُفق على القيام بتجربة أن نعيش يومًا بدون استخدام الهاتف المحمول “الموبايل” بأية صورة من الصور، لنرصد معًا تأثيره على حياتنا اليومية. يومها، رأيتُ واحدًا منهم أصابعه تتحرك كأنه يقوم بعمل “شات chat” رغم أنه لم يكن ممسكًا بالموبايل! بعضهم ظهرت عليه حالة من الكآبة غير المُبَرَّرة. مع منتصف اليوم ابتدأ كثيرون في استعجال عودة الموبايل إليهم، أو في التساؤل عن الوقت المتبقّي على انتهاء التجربة. في النهاية، أقرَّ بعضهم أنهم مُستَعبدون للمحمول، والعدد الأكبر صرَّح بأنه اكتشف أنه يحتاج لمراجعة موقفه منه، في حين قال البعض إنهم لم يتأثروا بغيابه عنهم.
والهاتف المحمول اليوم لم يعد فقط لإجراء الاتصالات الهامة في أسرع وقت، كما كان القصد من ابتكاره أساسًا، بل أصبح خزانة للوسائط المتعددة (multimedia)، فبواسطته يمكن أن تستمع للموسيقى وتشاهد الفيديو، وتُبحر على الإنترنت، وتدردش مع آخرين، وغير ذلك الكثير.
التجربة سالفة الذكر حملت بالنسبة لي أكثر من دلالة، ليس فقط عن المحمول بل عن “الميديا” بصفة عامة. والمصطلح “الميديا” في عصرنا الحالي اتسع ليشمل: الجرائد والمجلات، الكتب، التلفزيون والفضائيات، الأفلام والمسلسلات، الإعلانات، الإنترنت ومواقعه، ألعاب الكمبيوتر والپلاي ستيشن وما شابه. هي كل ما ينقل الفكر والرأي والخبر، ويؤثر تأثيرًا مباشرًا على الذهن.
وبالطبع فإن لهذه الميديا منافع كثيرة، كسهولة الاتصال ووفرة الاطِّلاع ويسر التعلُّم، لكن لها مخاطرها أيضًا. ومما يؤسف له أن جيل الشباب الحالي غاص في المخاطر أكثر، وما أقل المنافع التي جناها من الميديا. وفي مقالي هذا سأركِّز على مخاطر استخدام الميديا أكثر، فمن الطبيعي أنك، إن أردتَ أن تربح، فعليك أن تتفادى الخسائر.
وقد اعتمدت في بحثي على مصادر علمية مختصة موثَّقة مذكور أهمها في نهاية المقال لمزيد من الاطِّلاع، كما وعلى ما رأيته وسط خدمة الشباب لعشرات من السنين، وعلى اختصاصي في هذا المجال أيضًا.
وأنا إذ أتكلم باختصار هنا عن هذه الأضرار، ليس غرضي أن أدعوك لعدم التعامل مع الميديا والردة إلى العصور السالفة، بل أن ألفت انتباهك لمخاطر أنت مُعرَّض لها وأنت تحاول أن تنتفع من الميديا، فتتعامل معها بحذر وتكون في آمان.
ضياع الأغلى
كم مرة قلتُ لنفسك أو لأحد والديك أو لآخرين وأنت على الإنترنت: “ثانية واحدة وأخَلَّص”، وامتدت هذه “الثانية” إلى قرابة الساعة؟! إن الثواني إذا اجتمعت تشكِّل دقائق، والدقائق مجتمعة تشكل ساعات، والساعات أيامًا، والأيام هي عمرك! فهل أدركت قيمة هذه “الثانية”؟!
واحد من أبشع مخاطر الميديا عمومًا، والإنترنت خصوصًا، هو إهدار الوقت الثمين. أن تجلس أمام شاشة مشدوهًا وأصابعك تتحرك بجنون على أزرار لوحة المفاتيح و“الماوس” أو تقلب في أزرار “الريموت”، تتحرك من صفحة إلى أخرى أو بين قناة والثانية، لتشاهد صور أصدقاء، تُعلِّق على “ڤيديو” أعجبك، وتنشر قَفَشاتك، وتجمع أكبر قدر من “اللايك like”، وتضيف أكبر عدد من الأصدقاء، أو لتتابع مسلسلاً فتجلس أمامه مُسَلسَلاً، أو تضحك على مواقف تافهة لبعض من يتاجرون بالحماقة من ممثلين، وربما تريد أن تحقق أعلى “سكور score” في لعبتك المفضَّلة، وغير ذلك من أمور؛ والمحصلة في النهاية هي “لا شيء يستحق”!! (ناهيك عن المواد الإباحية ومواد العنف وما شابههما والتأثير المُدَمِّر الناشئ عن مثل هذه المواد).
إن شبابك هو الوقت الوحيد المناسب لتعرف فيه خالقك، ولتبني شخصيتك وحياتك القادمة، وتؤسِّس كل ما يمكنك البناء عليه لاحقًا: هو الوقت الأنسب لتقترب من الله وتكون في شركة معه، لتدرس كتابه، ولتخدمه. هو الوقت الأفضل لتتعلم استخدام الكمبيوتر استخدامًا عَمَليًّا مفيدًا، في برامج تفيدك في مجال العمل مستقبلاً. هو الوقت الذي يمكنك فيه تعلُّم لغات لتضيفها لإمكانياتك التي ستفتح لك أبواب العمل لاحقًا. هو الوقت لتمارس هواية نافعة كالعزف والرسم والكتابة والمشغولات اليدوية فتضفي جمالاً وبهجة على حياتك. هو وقت لتقرأ ما يفيدك فتتسع آفاقك الفكرية وإدراكك.
فهل تضيّع هذا الوقت الثمين في فعل “لا شيء” على الإنترنت أو أمام الفضائيات أو الألعاب الإلكترونية؟!
دعني أذكِّرك بقول الكتاب «فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ الرَّبِّ» (أفسس5: 15-17). هل لاحظتَ وصفَ من لا يجيد استخدام الوقت؟ لا أحسبك كذلك، بل أحسبك من الحكماء الفاهمين الذين يبغون استثمار عمرهم أفضل استثمار.
فخ العنكبوت
مأساة كبرى أن تُدمِن شيئًا ما. والميديا تسبِّب الإدمان، فتجد نفسك لا تستطيع التخلي عن استخدامها، بل وتشعر بأعراض غريبة إذا أُجبرت على ذلك، وتحتل في حياتك جزءًا كبيرًا لا تستطيع أن تحدِّد لها حدودًا. إنها عبودية بكل معاني الكلمة. وقد سبق وغطينا هذا الأمر في مقال مستقل بعنوان “لا تَدَع العنكبوت يصطادك” في العدد 98، وأدعوك لقراءته (موجود على موقع المجلة على الإنترنت والرابط مذكور في آخر المقال). لذا فسأكتفي بأن أذكِّرك أن المسيح جاء للعالم ليحرِّرك من أي قيد يقيدك، وهو يريد أن يفعل ذلك الآن (يوحنا8: 36). فلماذا ترضى أن تبقى مُستَعبَدًا؟! «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ» (1كورنثوس6: 12).
الحياة الخيالية
اتُفق على وصف كل ما هو في فضاء الإنترنت بأنه افتراضي أو تَخَيُّلي، نظرًا لعدم وجوده على أرض الواقع؛ فتلك مكتبة افتراضية يمكنك الاطِّلاع على الكتب فيها والشراء منها، لكن إن أردتَ الذهاب إليها فلن تجدها في أي مكان؛ لذا تسمى مكتبة افتراضية. وهكذا تطورت الأمور حتى وصلت إلى ما يسمى بالواقع الافتراضي أو الحياة الافتراضية!! وهو خلق عالم متكامل لا وجود له في الواقع، لكن يمكنك أن تفعل فيه ما شئت، في ذهنك ومن خلال الكمبيوتر. ومن هذا المنطلق ابتدأ ظهور الألعاب الحياتية (أي التي تستخدم شيئًا يحدث في الحياة كمادة اللعبة، كبناء المدن، وزراعة الحقول، وقيادة السيارات...). ثم تطور الأمر إلى مواقع وألعاب التواصل الافتراضي أو العالم التخيلي، والذي فيه يقوم كل واحد بتحديد شكله وشخصيته واسمه وملابسه وسماته، ويمارس تخيُّليًّا، كل ما يمكن فعله في الواقع؛ كالتعرُّف على أصدقاء وهميين، والحوار معهم، والسفر والشراء والبيع والعمل! عالم وهمي فيه يتعايش الأفراد عن بُعد، دون أن يروا بعضهم البعض، يتناقشون، يذهبون للسينما معًا، ويقيمون حفلات، بل ويقعون في الحب ويتبادلونه! كل هذا وهم جالسون أمام شاشة الكمبيوتر بلا حركة، يمارسون كل هذا في عالم تخيُّلي افتراضي غير واقعي وبشخصيات تخيُّلية!! وهذا الوهم لا يأتي فقط من الإنترنت، بل أيضًا من الألعاب الإلكترونية، والإعلانات، والأفلام والمسلسلات.
وخطورة الأمر هنا تأتي من العيشة في الوهم وأحلام اليقظة، الأمر الذي يعوق إنجازك في أرض الواقع والحقيقة؛ فإذا فزتَ على أقوى فرق العالم في رياضتك المفضلة وأنت جالس مُستَرخٍ أمام الكمبيوتر فما الحاجة إلى التدريب والجهد لإنجاز رياضي؟ وإن كوَّمتَ الأموال (الافتراضية الوهمية طبعًا) وزرعت مساحات من الحقول واقتنيت مقتنيات كثيرة وأنت تلعب لعبة أو على الفيسبوك، فما الحاجة للنزول من البيت للعمل أو غيره؟ وإذا صدَّقت أن استخدامك لمنتج معين سيحقق لك أحلامك (أو يجعلك “تسترجل” أو تصبح “مين قدك”) فَلِمَ التخطيط والبحث والدراسة والالتزام؟ وإذا اندمجتَ مع بطل فيلم أو مسلسل وعشت دوره، و...، و... وهكذا استدركت في أوهامك!
يقول الكسالى والجهلاء إن العيشة في الوهم “لذيذة” وسهلة، لكنهم يستفيقون على الحقيقة المُرَّة يومًا ما، وغالبًا ما يكون هذا الاستيقاظ متأخرًا جدًّا، فيجدون أيديهم فارغة، وأنفسهم مُرَّة، وحياتهم بلا معنى. فلا تقع في هذا الفخ يا عزيزي، ولا تدع الوهم يأسرك، بل استفق، اعمل واجتهد، وعلى الله اتكل؛ فستفلح وتنجح في حياتك الحقيقية لا الوهمية، وسيباركك الرب من كل جهة.
“أنا” لا أعجبني
من مساوئ الميديا المؤثرة للغاية الفهم الخاطئ للصورة الجسمانية (body image). والصورة الجسمانية هي ما تضعه في ذهنك من شكل محدَّد تعتبره هو الصورة المُثلَى التي يجب أن تكون عليها، من حيث شكل جسمك وحركتك ومظهرك العام ونمط حياتك. وتتفنَّن الميديا في نقل صورة مغلوطة لهذا، من خلال الإعلانات والأفلام وما يذاع عمومًا، مستخدمة التكنولوجيا والخدع وإثارة الضجة حول من يسمونهم “النجوم”. فتنقل للفتيات أن الجسم السليم هو النحيف للغاية ، وتنقل للشباب أن الجسم الصحيح هو المفتول العضلات بشكل مُبالَغ فيه، وتنقل لكليهما أن الشكل المقبول هو بملابس معينة وقصات شعر معينة وزينة وسلوكيات معينة. كل هذا يعطيك صورة جسمانية خاطئة.
هذا يقود دائمًا للشعور بالنقص، فأنت دائمًا لا تستطيع الوصول لهذه الصورة التي اعتبرتها “مثالية” لشكلك، وبالتالي تزداد مُعاناتك مع الشعور بأنك أقل من غيرك، وتحاول أكثر وتفشل أكثر فتزداد مُعاناتك!!
كما تقود هذه الصورة المغلوطة إلى كثير من الممارسات الخاطئة، مثل ممارسة النظم الغذائية “الريچيم” بطرق غير صحيَّة، أو تعاطي عقاقير مُنشِّطة أو مُنمِّية للعضلات ومعظمها له أضراره.
من ناحية أخرى، هذا يحرمك من أن تكون أنت أنت، بمحاولاتك المستميتة أن تكون النجم الفلاني، ناسيًا أن الله خلقك متميِّزًا عن غيرك بما فيهم مَنْ تراهم في الميديا. ويحرمك من خطة الله الخاصة المتميزة التي أعدَّها لك ليستخدم فيها كل سماتك وصفاتك وأوصافك، حتى ما تراه أنت نقاط ضعف.
لماذا أتصرف هكذا؟
التأثير السلوكي: لميديا مُثبَت علميًّا بإحصائيات وتجارب عَمَلية عديدة. فتَعَرُّضك المستمر لمحتوى الميديا ينشئ فيك، دون أن تُدرك، الكثير من السمات السلوكية السلبية مثل:
العنف: وما أكثره في أفلام “الأكشن” وألعاب كمبيوترية كثيرة تقوم على الضرب والعنف بل والقتل. فهل تستغرب بعد تعاطيك هذه الجرعات من العنف أن تكون أنت نفسك عنيفًا؟!
الانعزالية: طول الساعات التي تقضيها أمام الميديا منفردًا تُفقِدك مهارتك في التعامل مع الناس الطبيعيين والتواصل معهم، وتؤدي بك إلى الانعزال وفقدان دورك في مجتمعك، وتجعل من الصعب إقامة علاقة اجتماعية سليمة معك!
الثقافة الاستهلاكية: تقوم الميديا تجاريًّا على فكر اقتصادي بأن تحث المشاهد على اقتناء أشياء واستهلاكها، بغضّ النظر عن احتياجه لها من عدمه، فتجد المتابع المستمر لها دائم الرغبات، يريد أن يشتري هذا وأن يستعمل ذاك، فتجد رغبة الامتلاك عندك بلا ضوابط أو روابط وبلا منطق أيضًا، ولا يخفى عليك الأثر الاقتصادي لمثل هذا السلوك، وأيضًا ما يسبِّبه من مشاكل مع أولياء أمرك.
تمجيد العادات السيئة: كالتدخين وتعاطي المُكَيِّفات والغش والعلاقات غير القويمة، مما يدفع المشاهد المستمر لممارسة مثل هذه العادات دون تفكير.
الميول الجنسية غير المنضبطة: فالميديا تحوي الكثير من المحتوى الذي يثير هذه الميول. ليس بالضرورة مواد جنسية صريحة، بل بالملابس التي تعري أكثر مما تستر، وبالمشاهد والتلميحات الجنسية. فهل تستغرب بعد تعرضك بوفرة لهذا الإشعاع الفكري أن تجد في داخلك رغبات وفي خارجك تصرفات لا تُرضِي؟
وأكثر من هذا!
فهناك تأثيرات ذهنية كثيرة مثل مشاكل التحصيل والتعلُّم، فقد أُثبِت عِلْميًّا العلاقة بين الإفراط في متابعة الميديا وبين ضعف التحصيل الدراسي، لأن كثرة متابعة الميديا يجعلك دائمًا في وضع المُتَلَقِّي دون تفكير أو محاولة للاستنتاج أو الفهم، فالميديا تتعامل مع الخيال وليس مع التفكير الواعي.
كما يٌنشئ التشتت الفكري، نظرًا لتضارب الآراء والأفكار المعروضة دون وجود مرجعية سليمة نحكم بها على الأمور.
والجسم أيضًا يشتكي من الآثار السلبية للميديا، كمشاكل العمود الفقري والرقبة بسبب الجلوس المستمر، واضطراب العادات الغذائية (مما يؤدي للسمنة المفرطة أو النحافة الشديدة)، ومشاكل العيون، وغيرها.
صديقي، صديقتي،
كما قلتُ في البداية، كانت هذه محاولة موجزة لتبصيرك بمخاطر تَحُف هذا الطريق، أدعوك لأن تلتفت إليها. اكتف من الميديا بالمنفعة ولا داعي للمخاطرة. اسأل نفسك دائمًا وأنت تتعرض للميديا:
كم من الوقت تستهلك مني؟
وهل هذا الوقت مُباَلغ فيه أو يتعارض مع تَقَدُّمي في نواحٍ أخرى (روحيًا أو علميًا...)؟
هل أنا الذي أتحكم في استخدامي للميديا أم هي التي تتحكم فيَّ؟
هل أستعمل معها عبارات مثل: “ما أقدرش أبعد عنها”، “مش ممكن يوم يعدي من غيرها”؟
ما هو التأثير الذي تتركه في ذهني؟
هل تعوقني روحيًّا؟
هل تغيَّرت عاداتي وسلوكياتي بسببها؟
هل أعاني من أحلام اليقظة والأوهام؟
وهل كففت عن الاجتهاد في سبيل تحقيق أغراض عظيمة في حياتي؟
أرجو أن تكون أمينًا مع نفسك في فحص الأمر، فنحن نتكلم عن أخطر ما فيك، عن ذهنك، دائرة معركة الشيطان، والمنبع الرئيسي لكل ما يتعبك ويسقطك. كن أمينًا والرب سيعطيك الفكر السديد.
أتركك راجيًا لك حياة مثمرة نامية منتصرة!
المراجع:
www.nahwalhadaf.com/makala.aspx?mid=1408
www.rshabab.org/article.aspx?id=345
www.pediatricsdigest.mobi/content/117/4/1018.full
www.cs.aappublications.org/content/104/2/341.full
www.s.washington.edu/thmedia/view.cgi?section=bodyimage&page=fastfacts
www.ages.com/hub/Mass-Media-Influence-on-Society
www.le.oregonstate.edu/~flayb/MY%20PUBLICATIONS/Mass%20media/Wakefield%20et%20al%2005%20Media%20youth%20review%20Addiction%202003.pdf
www.pamf.org/teen/life/bodyimage/media.html