الرجل الريفي والسفير البلجيكي
فلاح عجوز يُقيم في ريف غرب أمريكا، سافر ليقضي بضعة أيام مع ابنه السيناتور في مجلس الشيوخ الأمريكي، والذي كان يُقيم في العاصمة واشنطن. وكان هذا الابن صديقًا للسفير البلچيكي لدى الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي إحدى الأمسيات، أتى السفير البلچيكي لزيارة الابن، وانضم إلى مجلسهما الأب الفلاح. وأثناء الحديث الطويل، الذي تخلَّله العشاء، تناقش السيناتور الأمريكي مع السفير البلچيكي في أمور شتى، سياسية واقتصادية واجتماعية: الملف النووي الإيراني.. الملف النووي الكوري.. الإرهاب.. مشكلة الشرق الأوسط.. الانهيار الاقتصادي العالمي.. أزمة الغذاء.. أزمة المياه.. الأمن القومي الأمريكي.. العلاقات بين أمريكا وأورُبا... وغيرها من الأمور العالمية الهامة. وخلال الجلسة الممتدة لم يتفوه الأب الريفي إلا بكلمات قليلة متناثرة متباعدة، وبدا وكأنه يفكِّر ويتأمل في أمر يفوق في أهميته كل هذه الأمور.
وفي نهاية الجلسة، وقف الجميع للانصراف. وعندما مدَّ السفير يده لمصافحة الأب، توَّقع السيناتور أن أباه سيوَّدع السفير بعبارات تحمل بين طياتها شيئًا من الملاطفة والمجاملة، عبارات محفوظة عن ظهر قلب، دائمًا نرددها حتى وإن كُنَّا لا نعنيها، ونعرف أنه مُبالغ فيها؛ عبارات على شاكلة: “نوَّرتنا”.. “شرّفتنا”.. “ربنا لا يحرمنا منك أبدًا”... وهكذا!
ولكن خاب ظن الابن. فلقد توَّجه الأب نحو السفير، وأمسك بيمينه بين راحتيه، بحنو بالغ. وبعيون لامعة، وبوجه يشع بالمحبة والعطف، وبصوت متهدج، وبنبرة جادة، وَّجه إليه سؤالاً صريحًا: سيادة السفير: هل أنت مسيحي حقيقي؟ هل وُلدت ثانية؟ هل تعرَّفت على الرب يسوع المسيح مُخلِّصًا وفاديًا شخصيًّا لك؟
صُعق السفير من هذه الكلمات، ولم يُجب بشيء. وامتُقع وجه السيناتور وانعقد لسانه عن الكلام، وشعر بالحرج الشديد. وران صمت رهيب لبرهة، فاستمر الأب في أسئلته الموَّجهة للسفير: ماذا إذا انتهت حياتك اليوم؟ هل ستذهب إلى السماء أم إلى العذاب الأبدي في الجحيم؟
ولما لم تأتِ إجابة، أردف الرجل قائلاً: عزيزي، يجب أن تهتم بأمر أبديتك، ويجب أن تستعد للقاء إلهك، لأنه - إن آجلاً أو عاجلاً - لا بُد أن تُقابل الرب يسوع المسيح. وإن لم تلتقِ به كالمخلِّص الآن، سوف تلتقي به فيما بعد كالديَّان. وإذا لم تلتقِ به عند الصليب ليمنحك الخلاص، سوف تقابله أمام عرش الدينونة العظيم لتنال منه القصاص.
وبدون إجابة أو كلمات انصرف السفير.
مرت الأيام، ومات الأب، وانتقل ليكون مع المسيح. وامتلأ منزل السيناتور بباقات الزهور التي تحمل كروت التعزية الممتلئة بعبارات متكرِّرة جوفاء، على شاكلة: “نشاطركم الأحزان”، أو “مصابكم مصابنا”، أو غيرها من العبارات الروتينية الجافة. ولكن باقة زهور كانت مختلفة، أُرسِلت من السفير البلچيكي في أمريكا، ومعها كارت تعزية تقول كلماته:
“فقدنا رجلاً كريمًا وشجاعًا ورائعًا. هو أعظم مَنْ قابلتهم في حياتي. هو الوحيد الذي اهتم بأمر نفسي وحياتي الأبدية. لقد كان رائعًا عندما سألني في جرأة إن كنت مسيحيًّا حقيقيًّا أم لا. بسبب كلماته صدمني الخوف من الله وأيقظني. كنت أتمنى أن أراه ثانية لأُخبره أنني تعرّفت بالرب يسوع المُخلِّص، ووُلدت ثانية من الله. ولكني سأراه في السماء.”
ولم يستطع السيناتور أن يتماسك بعد قراءته لكارت التعزية، فأجهش بالبكاء، ولكن قلبه كان مملوءًا بالعزاء.
أحبائي، لم يكن الأب يعرف الملاطفة والمداهنة اللتين يُمكنهما أن يُفسدا، ولكنه كان يعرف المحبة التي تبني حتى ولو كانت جارحة: «أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ، وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ» (أمثال27: 6).
لقد كان مثل “أَلِيهُو بْنِ بَرَخْئِيلَ الْبُوزِيِّ” الذي - بعدما كفَّ الأصحاب الثلاثة عن مُجَاوَبِة أيوب لِكونه بارًا في عيني نَفسِهِ - قال: «أُجِيبُ أَنَا أَيْضًا حِصَّتِي، وَأُبْدِي أَنَا أَيْضًا رَأيِيِ. لأَنِّي مَلآنٌ أَقْوَالاً. رُوحُ بَاطِنِي تُضَايِقُنِي (وَالرُّوحُ فِي دَاخِلِي يُحَفِّزُنِي). هُوَذَا بَطْنِي كَخَمْرٍ لَمْ تُفْتَحْ. كَالزِّقَاقِ الْجَدِيدَةِ يَكَادُ يَنْشَقُّ. أَتَكَلَّمُ فَأُفْرَجُ (فَلأَتَكَلَّمَنَّ لأُفْرِجَ عَنْ نَفْسِي). أَفْتَحُ شَفَتَيَّ وَأُجِيبُ. لاَ أُحَابِيَنَّ وَجْهَ رَجُلٍ وَلاَ أَمْلُثُ إِنْسَانًا. لأَنِّي لاَ أَعْرِفُ الْمَلْثَ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَأْخُذُنِي صَانِعِي (لَنْ أُحَابِيَ إِنْسَانًا أَوْ أَتَمَلَّقَ أَحَدًا. لأَنِّي لاَ أَعْرِفُ التَّمَلُّقَ، وَإِلاَّ يَقْضِي عَلَيَّ صَانِعِي سَرِيعًا)» (أيوب32: 17-22 ما بين القوسين من الترجمة التفسيرية).
وعندما تكلَّم الأب، كان كلامه «بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحًا بِمِلْحٍ» (كولوسي4: 6).
النعمة هي التي تُظهر ما هو الله في المسيح، وما هي محبته وهباته المجانية بالنسبة لهؤلاء الذين ينتسبون إلى هذا العالم الفاسد الشرير. ولكي يكون حديثنا «بِنِعْمَةٍ»، يجب أن يتَّصف باللطف وبالتواضع، وفيه الكثير من سجايا المسيح، ويجب أن يخلو من الثرثرة والتفاهة والمرارة.
والملح يُشير إلى كل ما يحفظ القداسة ويحرسها، ويُطالب بحقوق الله القدوس، ويمنع سريان الفساد والتعفن. والكلام المُصلَح بملح يجب أن يكون بإخلاص، ومن دون رياء، بالإضافة إلى كونه مُتَّسِمًا بالنعمة. وكما أن الملح هو الذي يُعطي الطعم، فيجب ألا يكون حديثنا فارغًا أو باطلاً أو تافهًا، بل بالحري نافعًا وذا قيمة: «لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ» (أفسس4: 29).
وكان الأب كأنه يُطيع تحريض الرسول بولس: «أَنَا أُنَاشِدُكَ إِذًا أَمَامَ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتَ، عِنْدَ ظُهُورِهِ وَمَلَكُوتِهِ: اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ. اعْكُفْ عَلَى ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ. وَبِّخِ، انْتَهِرْ، عِظْ بِكُلِّ أَنَاةٍ وَتَعْلِيمٍ» (2تي4: 1،2). ويا ليتنا جميعًا هكذا!