«إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا... فَكَذلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (لوقا14: 26، 27، 33) .
“قدَّم الصبي الصغير طبقًا من العنب لضيف بسيط معروف بسذاجته، فأخذ الضيف العنقود، الذي بدا شهيًّا في منظره وباردًا في ملمسه في ذلك اليوم الحار من أيام الصيف. لكنه لاحظ في البداية أن هذا النوع من العنب حباته سميكة القشرة إلى حد ما، ليس أكثر. لكن حينما انفجر الصبي في الضحك بطريقة ساخرة، أدرك الضيف على التو أن العنقود لم يكن حقيقيًّا بل كان اصطناعيًّا.”
واضح أن صناعته كانت على درجة عالية من الجودة حتى إن الشكل والملمس يطابقان النوع الحقيقي، لا ينقصه سوى الرائحة والطعم. بالطبع هذا هو الفرق بين الجماد والكائن الذي فيه حياة. ومع التقدم الصناعي المذهل الذي تشهده أيامنا، تطورت صناعة الزهور والفواكه ونباتات الزينة الاصطناعية، حتى إنه مَرَّات يكون من الصعب أن يكتشف أحد حقيقتها من النظرة الأولى؛ إنما يتطلب الأمر إمعان النظر والفحص عن قُرب حتى تكتشف أنها بلاستيكية وليست حقيقية!
ليس فقط تلك المصنوعات التي تجذب الأنظار بشكلها الجذَّاب شبه الحقيقي، بل إن حياة بعض الناس تكون اصطناعية، لها لمعان المعادن المطلية بالذهب، بينما جوهر حياتهم يختلف عن مظهرهم مثل الفواكه والزهور الاصطناعية. حياة لها جاذبية وجمال المظهر، تُبهج النظر بينما تخلو من الحياة والثمر، وتنتقص القيمة والأثر. حياة مُفتَعَلة لا طعم لها ولا رائحة، لا يمكن أن تُنعش أو تُشبع مَن في محيطها.
الكتاب يحدِّثنا عن نوعية من الناس موجودة في الأوساط المسيحية، أناس: «لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا» (2تيموثاوس3: 5). عندما ينزلقون في مزالق الزيف والتَجَمُّل الكاذب بعد أن يبهرهم بريق مظاهره، فيصابون بدواره فيسقطون في خطية الرياء ويدمنون ارتداء الأقنعة. يقضون مُعظَم عُمرهم مُخَدَّرين بكلام المديح والإطراء الذي تطرب له آذانهم، ولا يهمهم في الحياة سوى رضا الناس وتحسين سمعتهم وتألق صورتهم. وهذه الفئة من الناس ليست المقصودة في حديثي هنا لأن أمثال هؤلاء لم يوُلدوا من الله، وليست لهم حياة الله. هؤلاء يعيشون مسيحية بلاستيكية وليست حقيقية!
لكن الشيء المؤسف أن ترى مؤمنًا حقيقيًّا لكنه يعيش مثل الزهرة أو الثمرة البلاستيكية الاصطناعية، يُدمن حضور الفرص الروحية؛ سواء الاجتماعات أو المؤتمرات المتميزة التي تشجع المؤمنين على الخدمة وتكريس الحياة، فتصير وسيلة نشوة وقتية له. لا يفوِّت فرصة إلا ويكون حاضرًا. نعم، حاضرًا بجسده ومشاركته، سواء في نشاط يمارسه أو في العبادة. ربما يرنم أروع الترانيم عن التكريس والخدمة، واعتاد أن يسمع ويردِّد أقوى العبارات في الصلوات عن تكريس الحياة وكل الطاقات والأوقات للرب، مُعَبِّرًا عن استعداده لاحتمال المَشقَّات وبذل الذات؛ بينما تحكي حياته رواية أخرى، والمسافة بينهما شديدة الاتساع. فالتكريس بالنسبة لأولئك المؤمنين ليس أكثر من معلومات مختزنة في الذهن، تُصاغ في صورة ترانيم وصلوات وجملة حركات تجذب الأنظار وتخلو من الأثمار؛ هذا النوع من التكريس ليس حقيقيًا لكنه بلاستيكيًّا!
عزيزي، إن كانت الفجوة كبيرة بين ما تحياه وما تردده، أدعوك وأناشدك باسم الرب يسوع أن تقف وقفة صادقة مع نفسك؛ واذكر أن الترانيم التكريسية ليست كلامًا وأنغامًا، بل هي صلوات معزوفة على أوتار قلب نقي أمام الرب، يريد أن يُخلِص له الحب ويقدم له الكل. صلوات إن لم تكن ممتزجة بالصدق والاستعداد الكامل للطاعة والعطاء، فستخرج باردة كالثلج وجافة كالحطب، يتردد صداها كرنين الدفوف ولا تتعدى حد السقوف.
أدعوك أن تضع في قلبك أن تكون صادقًا في صلاتك وترنيمك وخدمتك، مُستَنِدًا على نعمة الله، راجيًا معونة الروح القدس الذي بدونه لا تقدر أن تقول أو تفعل شيئًا.
تذكر أنك لا تحيا من أجل الناس، بل من أجل الذي أحبك ومات من أجلك. تذكر أن حياة التكريس الحقيقي ليست فقط أخذًا بل أيضًا عطاء. وهذا العطاء مُكَلِّف ومُضنٍ، لكنه مُشبِع ومُعَزٍّ. إنه نير المسيح الهَيِّن، إنه التعب اللذيذ.
تذكر أن مدرسة النعمة تمتلئ بالدروس والتدريبات الإلهية العميقة التي تصنع منك تلميذًا حقيقيًّا للرب يسوع المسيح.
تذكر أن الشركة اليومية مع الرب في علاقة شخصية سرية وحميمة وهي التي تساعدك أن تنمو في النعمة وفي معرفة ابن الله فتزداد حُبًّا وتكريسًا له يومًا فيومًا.
عزيزي، تعالَ باتضاع أمام الرب، واسكب قلبك ودموعك واطلب من الرب، الفَخَّاري العظيم، أن يصيغ منك بنعمته تلميذًا حقيقيًّا فتتبع الرب بقلب كامل، مُنكِرًا ذاتك وحاملاً صليبك بنعمة الله.
لا تقبل أن تكون حياتك تمثيلية تُبهر الآخرين وتستقي النشوة من مديح المشاهدين، لكن كن شجاعًا وَقِفْ وقفة رجل في صف الله وانزع الأقنعة وارفض الزيف والرياء!
اقطع الطريق على رغبات الذات الجسدية البغيضة والملذات الوقتية الرديئة!
قِس الحياة بمنظار الأبدية، لا باعتبارات العالم وانطباعات البشر!
تضرَّع للرب اليوم بلجاجة ودموع كثيرة! تعالَ على ركبتيك وتواضع تحت يديه!
القلب المنكسر والمتضع هو سبيل النهضة الحقيقية في حياة أي مؤمن يشتهي من قلبه أن يكرِّس حياته لسيده الوحيد الحبيب.
افحص نفسك، وامتحن دوافعك أمام الرب، واعترف بحالتك وتعاستك، ولا تشفق على ذاتك؛ فهو يراك على حقيقتك ومستعد أن يجعل لحياتك قيمة حقيقية وهي بين يديه، إن أطعته وسَلَّمته الكل وسلكت في النور أمامه. حين تتلذذ بالرب ستتعلم كيف تُلقي التبر على التراب، وتختبر من قلبك أن كل تضحية من أجله تهون. وأنت مُتَّكِئ على صدره الحنون ستسمع همساته الرقيقة وتُمَيِّز صوته.
حينئذ تشبع من نبع حبه وتصنع ما يُسِر قلبه؛ فيكون تكريسك له تكريسًا حقيقيًّا وليس بلاستيكيًّا.