رأينا كيف جاء الشيطان كالحية ليُجرِّب الرب يسوع في البرية أربعين يومًا في بداية خدمته العلنية، وكيف استخدم كل حِيَله ومكايده وخبرته الطويلة مع الإنسان ليجد ثغرة يَنفُذ منها إلى مسيح الله القدوس، ليُحوِّله عن مسار الطاعة الفريد لله أبيه والخضوع لمشيئته. لكن رب المجد لم يوجَد فيه سوى الكمال المُطلَق العجيب. ولقد شهد عنه الشيطان نفسه قائلاً: «أنا أعرفك من أنت: قدوس الله» (مرقس1: 24).
وبعد أن فشلت محاولات الشيطان في الجولة الأولى من الصراع المباشر، فارقه إلى حين. ولم يكفّ عن صراعاته ومقاوماته غير المباشرة، عن طريق أعوانه الأشرار الذين مرارًا جرّبوه وقاوموه، ومرارًا حاولوا أن يقتلوه، لكن ساعته لم تكن قد جاءت. ظل في خدمته يُحرِّر مَنْ كانوا تحت سيطرة إبليس ويطرد الأرواح الشريرة التي كانت تسكن أجسادهم وتحطّمهم. وكان الشيطان هائجًا جدًّا عندما كان المسيح بالجسد على الأرض، إذ «جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المُتَسَلِّط عليهم إبليس» (أعمال10: 38). وفي ختام حياته، في حديثه الوداعي الأخير، قال الرب يسوع: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء» (يوحنا14: 30)، مشيرًا إلى الهجمة الأخيرة والمعركة الفاصلة عند الصليب، حيث تتحقق النبوَّة القديمة التي نطق بها الرب الإله للحية عن نسل المرأة: «هو يسحق رأسكِ وأنت تسحقين عَقِبه» (تكوين3: 15).
ونحن نعلم أن الشيطان كان قد ألقى في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يُسلّمه (يوحنا13: 2)، وبعد أن غمس الرب اللقمة وأعطاها له في عشاء الفصح، دخله الشيطان فخرج للوقت وكان ليلاً. فمضى ليتشاور مع رؤساء الكهنة لكي يبيعه بثلاثين من الفضة.
وفي بستان جثسيماني كان الرب يسوع يعتصر حزنًا وألمًا، وكان في جهادٍ كثير يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. وبينما كان الأحباء نائمين، كان العدو هائجًا، وكان يُصوِّر أمامه بشاعة الصليب بكل هوله المُريع، وكيف أنه سيجتمع عليه هيرودس وبيلاطس مع الأمم وكل شعب إسرائيل. كيف أنه سيواجه خيانة يهوذا وإنكار بطرس، وكيف سيتركه كل التلاميذ ويهربون ويتخلّون عنه في ساعة الشدة. كيف سيقع فريسة وسط الوحوش، وكيف سيواجه عار الصليب والموت الرهيب. كان الشيطان كالأسد المزمجر على ذلك الحمل الوديع أو تلك الأَيِّلة الرقيقة. لأجل هذا كان المسيح في حزن شديد وانسحاق أكيد يدهش ويكتئب في البستان.
لقد استعرض الشيطان كل قوته وجبروته عند الصليب، واستطاع أن يُهيِّج العالم كله ضد ابن الله. وتحت جُنح الظلام جاء يهوذا ومعه فرقة من الجند والخدام من عند رؤساء الكهنة ليقبضوا على الرب بحماس شيطاني، ومعهم سيوف وعصي، وألقوا عليه الأيادي فأوثقوه ومضوا به للمحاكمة. فقال لهم يسوع: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة».
وقف يسوع يُحاكَم أمام حنّان وقيافا رؤساء الكهنة، ومجمع السنهدريم وشيوخ الشعب، المحاكمة الدينية. وقد واجه كل الظلم والذل، وعومل بقسوة ومَهانة. فكانوا يلطمونه ويلكمونه ويبصقون في وجهه وهو موثوق اليدين. لقد أذوه بالقيود وهو مَنْ على الكل يسود. والشيطان ملأهم حقدًا وعداوة ومرارة حتى الموت.
وفي المحاكمة المدنية أمام بيلاطس وهيرودس، واجه رب المجد الكثير من الإهانة والتطاول، وعومل بأقسى درجات العنف والشراسة والوحشية. فقد أخذ بيلاطس يسوع وجلده، وعلى ظهره «حرث الحُرَّاث، طوَّلوا أتلامهم». وضَفَر العسكر إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه، وضربوه بقصبة على رأسه وبقضيب على خده كان الجميع: كل الشعب، كل المجمع، كل الكتيبة، كل الخدام، كل العسكر، كل الواقفين وكل العابرين، كلهم تحت سيطرة الشيطان الذي أهاجهم وشحنهم بمشاعر الاحتقان والكراهية والغضب العارم في ذلك اليوم العصيب. وقد اجتمعوا معًا بهدف واحد أن يقتلوا ذلك البار الوحيد والمُحِب الأعظم، الوديع والمتواضع القلب، الشخص الذي لم يفعل ذنبًا ولا وُجد في فمه غش. هناك سمروه مُعلقين إياه على خشبة، واستمروا يُجدِّفون عليه ويُعيِّرونه، وكتبوا النهاية: مات بين المذنبين، إذ أُحصي مع أثمة. وحتى بعد أن مات وأسلم الروح طعنوه بحربة في جنبه، فللوقت خرج دم وماء.
لقد كتب بيلاطس عِلَّته ووضعها على الصليب: «يسوع الناصري، ملك اليهود». وكتبها باللغة العبرانية واللاتينية واليونانية، أي بكل لغات العالم وفئاته، وهذا يعني أن العالم كله بزعامة الشيطان قد اشترك في جريمة صلب ابن الله الشنعاء، ويده تلطخت بدم البار القدوس الذي أرسله الله إلى العالم ليَخلُص به العالم.
هذا يُرينا عداوة وشراسة وقوة الشيطان التي ظهرت عند الصليب، والتي انتهت بالمسيح في القبر خلف الحجر المختوم بخاتم بيلاطس والدولة الرومانية. وكأن الكل يقول: هو ها هنا. “والخصم قد ظن بأنه ظفر، إذ دُفن الرب يسوع وخُتم الحجر.” لكن الرب يسوع قام من بين الأموات «ناقضًا أوجاع الموت إذ لم يكن مُمكنًا أن يُمسَك منه».
على أن الشيطان ما كان يدرك أن الصليب سيُحصِّل لله مجدًا أعظم مما خسر بدخول الخطية، وسيُظهِر محبة الله وحكمته وقوته وعدله ورحمته وبره ونعمته، بكيفية لم تحدث من قبل منذ بدء الخليقة. وما كان يدري أن الصليب سيُحقِّق أعظم بركة للإنسان؛ إذ سيُحصِّل له الغفران والتبرير والقبول أمام الله على أساس متين من العدل والبر وليس مجرد الرحمة والشفقة. وما كان يدري أن الصليب سيكتب الدينونة على هذا العالم الفاسد ويكشف حقيقته. وما كان يدري أن الصليب سيُسقِط الحُجة من فمه، ويُجرّده من حقه في الشكوى العادلة ضد الإنسان المذنب أمام الله البار، حيث أن المسيح قد حمل خطاياهم ودفع ديونهم. وما كان يدري أن الأساس لتحقيق مقاصد الله من جهة الإنسان ليُساكِن الله في مجده الأبدي قد وُضع عندما مات المسيح. وما كان يدري أن نسل المرأة سيسحق رأس الحية في الصليب عندما قام من الأموات، وتعيَّن ديانًا للجميع. ولو عرف الشيطان والعالم الشرير كل هذه النتائج والحكمة والقصد الإلهي لَمَا صلبوا رب المجد، ولَمَا تكتَّلوا ضده على هذا النحو.