المنديل الأبيض

فضيحة بجلاجل!  هكذا انتشر الخبر بسرعة البرق في المدينة الصغيرة بصعيد مصر.  الكل يذكر اسم “هاني” ويتهامسون ويسخرون ويتغامزون...  كيف يحدث هذا في بلدنا التي تتميز بالأخلاق والتحفظ؟  لم نسمع عن هذا من قبل في بلدنا!  وصل الخبر لأبي “هاني” فكاد ينفجر من الغضب الممتزج بالعار للفضيحة التي سبَّبها “هاني” للعائلة وللبلدة كلها، ولا سيما من كلمات أهل البلد اللاذعة: “شاب يستحق القتل.. لو كان  ابني لذبحته..”.

وهكذا ظل الأب يبحث عن “هاني” لكي يسمع منه شخصيًّا حقيقة ما حدث.  بحث عنه في كل مكان؛ في المدينة وبيوت الأصحاب والأقرباء، لكن أين “هاني”؟!  لقد اختفى تمامًا من المدينة، ولا يعلم أحد أين ذهب.

مَرَّت شهور طويلة على اختفاء “هاني” من البلدة، مَرَّت كالقرون الطويلة على أمه وأبيه.  لقد أبلغوا كل الأصحاب والأصدقاء في الجمهورية كلها، وسألوا عنه في أقسام البوليس والمستشفيات، ولكن دون جدوى.  إلى أن جاء خطاب ما أن تسلمه الأب حتى عرف في الحال خط ابنه، ففتحه بسرعة شديدة، وفعلاً كان من “هاني”، قال فيه:

“أبي الحبيب.. أمي الغالية.. بعد التحية، أعلم كل ما سببته لكم من الفضيحة والعار والذل والحزن في البلد كلها، أعلم أني لا أستحق حتى أن أرسل لكم هذا الخطاب ولا أن تقرأوه، وبالطبع لا أستحق أن أكون معكم، فيكفيكم ما احتملتموه بسببي.  لكن مشكلتي الحقيقية التي لا يعلمها إلا الله وحده أني أشتاق إليكم جدًّا.  آه..  إني لا أستطيع أن أعيش بدونكما!  أتوق أن أراكما ولو لدقيقة واحدة، ولكن كيف أتجرأ وأفعل هذا بعد كل ما قاسيتماه بسببي؟  ورغم علمي بكل هذا، لكن يراودني الأمل أحيانًا أن أراكما.  فخطرت ببالي فكرة إرسال هذا الخطاب الذي من حقكما أن تتجاهلاه تمامًا وكأنه لم يَصِلكما.  لكن لكي أقطع هذا الأمل الذي يعذبني وأقتله تمامًا، كتبت هذا الخطاب.  سوف أمُرُّ بجوار البيت في وقت ما لا تعلماه، خلال الفترة القادمة، فإن كنتم تسامحوني وتقبلوني، ولو للحظات حتى أراكما وأُطفئ لهيب أشواقي التي تعذبني، أرجو وضع منديل أبيض على راية في الشرفة (البلكونة) الخاصة بي في الطابق الثاني من بيتنا، وأنا سأراه فأدرك قبولكما لي، ولكن إن لم تقبلا رؤيتي - وأكرر أن هذا حقكما - فأرجو نسيان هذا الخطاب.  ابنكما الذي سبَّب لكما العار، هاني”.

سريعًا، ودون انتظار لحظة واحدة، أحضر الأب منديلاً أبيض ووضعه على عصا صغيرة، وكأنه علم يرفرف، وثبَّته في الشرفة التي في حجرة هاني، وأخذت الأم في الحال تطبخ الأكل الذي يحبه هاني انتظارًا لعودته.  وساد في البيت جو من الترقب السعيد لعودة هاني البعيد. 

ولكن بعد ساعات قالت الأم: “سيأتي الليل ويحل الظلام وربما لا يرى هاني المنديل الأبيض”.  فاشتروا أكبر مصباح ووضعوه في الشرفة أمام المنديل. 

 في الصباح قال الأب: “ربما يكون المنديل صغيرًا”.  فوضعوا بجواره قطعة قماش بيضاء كبيرة. 

وهكذا توالى وضع الأضواء والأقمشة البيضاء حتى غَطَّت المنزل كله.  حتى الأشجار المحيطة بالمنزل لم تعد خضراء بل بيضاء بمئات من الأشرطة والأقمشة والمناديل البيضاء.  وعلم جميع أفراد البلدة كيف أن هذا الأب يحب “هاني”، الذي ما أن دخل المدينة واقترب من البيت متوجِّسًا حتى رأى لا منديلاً أبيض واحدًا، ولكن رايات بيضاء كثيرة جدًّا وأضواء كثيرة كأضواء الأفراح.  وكان كل هذا مؤشِّرًا بسيطًا للسماح والغفران والمحبة الذي تمتع بدفئها “هاني” وهو بين أحضان أبويه.


صديقي القاريء العزيز، صديقتي القارئة العزيزة، هل أعجبك هذا الأب المُحِب؟  نعم، أعجبني أنا الذي أكتب إليك هذه المقالة، بل وذكَّرني بالأب المُحِب الذي حكى قصته الرب يسوع، حينما قال الابن الضال: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا.  اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ.  فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ.  وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ الاِبْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا.  فَقَالَ الأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ وَاجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاً فَوُجِدَ.  فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ» (لوقا15: 18‑24).

صديقي، صديقتي، هل أنت هارب من الله؟  هل تظن أن الله يريد أن يُهلكك بسبب كل ما عملته في حياتك من خطايا وشرور؟  إن كنت هكذا، فاعلم أن الله يحبك ولا يريد عقابك، بل يريدك أنت معه دائمًا كما قال المسيح: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ الله ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ» (يوحنا3: 17).  إن كل إحسانات الرب لك وعنايته بك وخيره المتكاثر تجاهك طوال السنين الماضية، ما هي إلا علامات تخبرك بحب الله لك وانتظاره لعودتك، كالمنديل الأبيض الذي كان علامة لقبول الأب “لهاني”.  ولكن أعظم علامة على وجه الإطلاق تؤكد لك محبة الله هي الصليب وجراحات المسيح لأجلك، كما عمل الرب يسوع مع التلاميذ بعد القيامة: «وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ...  ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: “هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنًا”.  أَجَابَ تُومَا: “رَبِّي وَإِلَهِي!”» (يوحنا20: 20، 27).

أقول إن جراحات المسيح على الصليب لأجلك أقوى برهان لمحبة الله لك ورغبته أن تعود، بل وحرفيًّا المنديل: «ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَﭐلْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعًا مَعَ الأَكْفَانِ بَلْ مَلْفُوفًا فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ...  وَرَأَى فَآمَنَ لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ» (يوحنا20: 8)!

نعم كُفِّن المسيح بكفن ومنديل.  أليس هذا كافيًا لتدرك أن الله يحبك ويدعوك؟  فهل تأتي إليه الآن؟ هل تُصَلِّي معي؟

صلاة:

يا أبي السماوي الجليل، شكرًا لك لأجل أعظم دليل،

الرب يسوع الذي مات عني فهو البديل.

اغسلني بدماه فإني خاطئ عليل.  آمين!