الفنان والمزمار

روى أحد خدام الرب هذا المَثَل:

زعموا أن قطعة صغيرة من الخشب تذمَّرت بمرارة في أحد الأيام لأن مالكها كان يبري منها ويحفرها بالأزميل، ويُحدث فيها ثقوبًا.  لكن مَنْ كان يعمل هذه الأشياء لم تهمُّه احتجاجات قطعة الخشب.  لقد كان يصنع من قطعة خشب الأبنوس تلك مزمارًا، وكان أحكم من أن يتوقَّف عندما صدر عن الخشبة احتجاج مرير.

وقال مالكها: “أيتها الخشبة الصغيرة، لولا هذه الشقوق والثقوب وكل هذا القص، كُنتِ ستظلين قطعة خشب عادية للأبد؛ قطعة من الأبنوس غير نافعة.  فالذي أفعله الآن يمكن أن يبدو كأنه تدمير لكِ، لكنه بدلاً من ذلك سوف يُحوِّلك إلى مزمار.  إن موسيقاكِ الجميلة سوف تهدئ النفوس المضطربة، وتُعزِّي القلوب الحزينة.  إن تقطيعي لك هو ما سيصنعك، لأنه بهذه الطريقة فقط يمكن أن تكوني بَرَكة في العالم.”

إن معنى هذا المثل الرمزي واضح؛ فالمزمار الذي ستمتزج موسيقاه في الأوركسترا صار آلة موسيقية فقط بالسكين والمبرد اللذين ملآه بالشقوق والثقوب التي بَدَت كأنها تدمير له.  لكن هدف السَيِّد كان أن تصبح الخشبة آلة موسيقية لتسبيح الرب.

أيها الأحباء، إن الله الآب المُحِب يُشَكِّلنا ويُؤدِّبنا ويُصَحِّحنا بمعاملات وتجارب تبدو أنها مؤلمة ومُحزِنة وقاسية.  ولكي ما يحفظ أقدامنا في الطريق الصحيح، يستخدم معنا الطرق التأديبية لكي يعتقنا من قوة الجسد، ويجعلنا شركاء في قداسته.  وكل الآلام التي يسمح بها لأولاده، الغرض منها إما التأديب أو التقويم، أو للإتيان بهم إلى اكتشاف خطية أو تَعَدِّيَات دفينة، والتغلب عليها، أو تكون للامتحان والاختبار، وبهذا يتقوون ويرتفعون إلى مستوى أسمى من الاختبار والمنفعة، أو تكون امتيازًا وشرفًا كشهادة للمسيح، من أجل اسمه، وللتخبير بفضائله.  فدعونا نكون صبورين، وندع تأديب الرب يعمل عمله في حياتنا.  ولنثق أن آلام الحاضر تؤدي إلى الربح الدائم.

وليتك، أخي المؤمن المتألم، تشكر الرب بقلب كسير وإرادة مُخضَعة من أجل الأحزان والآلام التي فيها دخلت نفسك في الحديد، والحديد في نفسك، ففي آخر المطاف ستجد أنه «مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أَكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ» (قضاة14: 14)، وأن «كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رومية8: 28).

إن قلم الروح القدس اهتم بوصف ضيقات أيوب وذُلِّه أكثر مما وصف مباهج سليمان ومسراته.  وأفرد الكتاب المقدس لتاريخ داود ثلاثة أضعاف المساحة التي أفردها لتاريخ سليمان.  ولقد ترك لنا داود المتألم في سفر المزامير تركة لا تُقدَّر بمال، لكن من المُحَقَّق، أنه ما كان يُمكِن إنشاء مزامير داود لولا الدقات والضربات التي وقعت على قلب داود.

والرسول بولس، حينما أحس بالشوكة المؤلمة والمُذِلَّة في جسده للمرة الأولى، تضرّع إلى الرب أن يبعدها عنه.  ثم عاد يلح على الرب إذ لم يحصل على جواب مباشر.  ولكن عندما أتت إلى هذا القديس المتألم كلمة الله، اقتنع وشبع: «فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ.  فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ.  لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاِضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ.  لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (2كورنثوس12: 7-10).  فإذا كانت ضيقاته، التي كان من شأنها أن تكسره وتُحنيه، قد أعطت قوة المسيح فرصة لكي تشمله، فيكفيه ذلك.  لقد أصبح المسيح هو المنظور لا بولس.  وهذا هو الواجب أن يكون.

ونلاحظ أنه يمكن للمؤمن أن يتخذ إحدى طرق ثلاث تجاه تأديب الرب:

الطريق الأول: أن يحتقر تأديب الرب؛ أي يستهين به، وبروح الكبرياء وبفعل الإرادة الذاتية يرى في التجارب أمرًا شائعًا بين البشر، ومن ثم لا يأتي منكسرًا أمام الله بسببه: «يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ» (عبرانيين12: 5؛ أمثال3: 11).

الطريق الثاني: أن يخور إذا وَبَّخه الرب، إذ يعتبر أن معاملات الرب معه أثقل من أن تُحتَمل، فترتخي يداه، ويسقط تحت وطأة التجربة بروح الفشل والحزن: «يَا ابْنِي...  لاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ (الرَّبِّ)» (عبرانيين12: 5؛ أمثال3: 11).

الطريق الثالث: أن يَتَدَرَّب به، وهذا هو الطريق الصحيح الذي يجب أن يتبعه كل مؤمن يُجيزه الرب في التأديب.  لا يحتقره، ولا ينوء تحته بالفشل، بل يَتَدَرَّب به، بأن يخضع للرب لكي يتعلَّم الدرس الذي يقصد الرب أن يُعلِّمه إياه، مُلتَجِئًا إليه لطلب الإرشاد والمعونة والتمسك بنعمته ورحمته: «وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ.  وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عبرانيين12: 11).

إن الرب يرغب في أن نتمتع من الآن بالبركات الناتجة عن تعاملاته معنا.  ولهذا فإننا في حاجة إلى تدريب حاضر.  أما البركات فهي أن نُصبِح شركاء في قداسته، وأن نتمتع بثمار البر للسلام (عبرانيين12: 10‑11).  والقداسة لا تقودنا إلى الامتناع عن النجاسة فقط، بل إلى كراهيتها تمامًا، كما يفعل الله أيضًا.  وكراهية الشر تقودنا إلى البِرِّ العملي، الذي لا بُد أن يأتي بثمر السلام، بالمباينة مع عالم شرير غير مستقر نعبُر فيه.

ومن المؤكَّد أنه في يوم آتٍ سنرى كل الطريق التي قادنا الرب فيها، وسنفهم فهمًا تامًا كل ما لحقنا من تجارب وأحزان كنا نحتاج إليها لتدريبنا وبركتنا.  عندئذٍ سنكون قادرين أن نرنِّم ونبارك اليد التي قادت، والقلب الذي كان يرسم ويحنو.  ولكن دعونا نرنم من الآن، ومن القلب، وبنغمة عالية صادقة: 

وقَبِّلي أيدي أبٍ

 

فإنَّ تأديبَ العَلي


فالآن لا تدرين ما


بل سوف تعلَمين أنَّ

 

يؤدِّب البنينْ


للنفعِ بعدَ حينْ


يصنعه الحكيمُ


ربَّالسماء رحيمُ