نأتي الآن إلى العدو الثاني الذي يحارب المؤمن؛ وهو العالم. وكان لنا حديث طويل عن العدو الأول؛ الذي هو الشيطان. وسنبدأ حديثنا بالسؤال:
ما المقصود بالعالم؟
إن كلمة “العالم” في الكتاب المقدس لها أكثر من معنى على النحو التالي:
1- العالم يعني الخليقة المادية. ففي مطلع إنجيل يوحنا، وهو يحدِّثنا عن أمجاد المسيح كالخالق الذي «كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان»، يُضيف قائلاً: «كان في العالم، وكُوِّن العالم به» (يوحنا1: 3، 10). كذلك يقول بولس في الرسالة إلى العبرانيين وهو يستعرض أمجاد الابن: «الذي به أيضًا عمل العالمين»، وأيضًا «بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقِنَت بكلمة الله» (عبرانيين1: 2؛ 11: 3). وبالطبع إن العالم كخليقة ليس في عداوة للمؤمن، وإنما هو يشهد عن عظمة خالقه، لأن «أموره غير المنظورة تُرى منذ خَلْق العالم مُدرَكة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته» (رومية1: 20).
2- العالم يعني البشر الذين يعيشون على الأرض. وهذا ما أعلنه الرب يسوع بنفسه عندما قال: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا3: 16). وبالتأكيد أن هذا المعنى ليس هو المقصود في قول الرسول يوحنا: «لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم» (1يوحنا2: 15).
3- الأمور الزمنية والمادية التي نحتاجها في حياتنا اليومية: «الذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه» (1كورنثوس7: 31)، وأيضًا: «مَنْ كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجًا، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟» (1يوحنا3: 17). وهذه الأمور ليس فيها أي ضرر إذا استُخدمت بالطريقة الصحيحة.
4- العالم كنظام مُرَتَّب ومُزَيَّن بإتقان (كما تعني الكلمة في الأصل اليوناني). هذا النظام جميل وجذاب ومتطور ويروق للإنسان. هذا النظام أسَّسه ويرأسه الشيطان، وهو في عداوة دائمة مع الله ومع المؤمنين.
وهذا هو المعنى الذي سنتناوله في دراستنا.
متى بدأ العالم يتكوَّن؟
لقد بدأ العالم يتكوَّن بعد دخول الخطية وسقوط الإنسان. فقد دخلت الخطية وفصلت الإنسان عن الله (تكوين3)، ودخل وراءها العالم ليحفظ الإنسان مفصولاً عن الله (تكوين4).
إن المعاناة التي أنتجتها الخطية يمكن أن تجعل الإنسان يفكِّر في الرجوع إلى الله، مصدر راحته وأمانه، لكن العالم يصرف الإنسان بعيدًا عن الله حتى لا يفكر في الرجوع إليه. وهذا هو هدف الشيطان.
ما هو الهدف من النظام العالمي الذي أسَّسه الشيطان؟
لقد أنتجت الخطية مشاعر سلبية كثيرة لدى الإنسان جعلته غير سعيد على النحو التالي:
1- الإنسان بالسقوط طُرِد من الجنَّة ومُنِع من الاقتراب منها بواسطة الكروبيم ولهيب سيف مُتَقَلِّب. هذا جعله يشعر بالخسارة الفادحة والحرمان. لكن الشيطان، من خلال العالم المُزَيَّن والمُجَمَّل، يحاول أن يعمل له جَنَّات وفراديس ليسعده بها بالانفصال عن الله. وكأنَّه يقدِّم له العطايا البديلة التي تغنيه عن الله.
2- الخطية أنتجت شعورًا بالذنب في الضمير. وهذا ما نراه على سبيل المثال في:
المرأة الخاطئة التي أَتَت إلى الرب يسوع في بيت سمعان الفريسي وهي باكية بالدموع دون أن تنطق بكلمة، لكنها غسلت رجليه بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها. لقد قادها الشعور بالذنب إلى المُخَلِّص والمريح، بعد أن تعبت من خطاياها الكثيرة. وقد وجدت عنده الراحة وغفران الذنوب وغطاء الحُب يُخفي لها كل العيوب. لهذا لم تَكُفّ عن تقبيل قدميه، وكانت تدهنهما بالطيب (لوقا7: 36-50).
كذلك نرى الشعور بالذنب في ضمير بطرس بعد أن أنكر الرب ثلاث مرات، والتفت إليه الرب، فخرج إلى خارج وبكى بكاءً مُرًا (لوقا22: 61-62).
وكذلك يهوذا الإسخريوطي بعد أن باع المسيح وأسلمه بثلاثين من الفضة، لما رأى أنه قد دِين ندم ورَدَّ الفضة وقال لرؤساء الكهنة: «أخطأتُ إذ سَلَّمتُ دمًا بريئًا» (متى27: 4). وتحت الشعور بالذنب مضى وخنق نفسه.
والشيطان يعرف معنى الشعور بالذنب نتيجة الخطية، وكيف أن هذا الشعور هو ثقل رهيب على ضمير الإنسان، وقد يقوده إلى البحث عن الله والالتجاء إليه طلبًا للغفران. لهذا فإنه من خلال العالم يُقدِّم علاجًا مزدوَجًا للإنسان دون الرجوع إلى الله. هذا العلاج يتمثل في التدين والفلسفة البشرية لتسكين الضمير.
(أ) التدين (ديانة العالم؛ الديانة الجسدية الزائفة): وهي أن يعمل الإنسان أشياء لأجل الله لكي يحصل على رضاه ويصبح مقبولاً عنده. وبذلك يكون راضيًا عن نفسه ويهدأ ضميره المُحتَج ضده. وهذا ما حدث مع قايين المتدين الأول. لقد حاول أن يقترب إلى الله ويقدِّم له القربان الذي لم يطلبه الله. فقدَّم من ثمار الأرض الملعونة ومن نتاج عمله في الحقل. لكن الله لم ينظر إلى قايين ولا إلى قربانه. لقد تجاهل قايين حالة السقوط التي يقف فيها أمام الله كخاطئ، واحتياجه إلى الذبيحة الدموية التي تكفِّر عنه وتجعله مقبولاً أمام الله. أما هابيل فقد اقتنع أنه لن يحظَى بالقبول والرضا وراحة الضمير إلا من خلال الذبيحة، فقدَّم قربانه من أبكار غنمه ومن سِمَانها، فنظر الله إلى هابيل وذبيحته، ورفع وجهه.
إن ديانات العالم، بكافة صورها، تهدف إلى علاج الشعور بالذنب والخوف من العقاب الناتج عن الخطية. وهي تُوهم الإنسان أن أعماله الحسنة ستُكَفِّر عن أعماله السيئة، وتُقنِعه أنه أفضل من غيره، وأن الله لا يريد أكثر من ذلك. فيمضي في طريقه مستريحًا، ليستمر عائشًا في خطاياه، وفي المقابل يقوم ببعض المُمارسات الدينية لتهدئة الضمير. هذا ما يسميه الكتاب: «راحة الجُهَّال»، إنها الراحة الوهمية لتسكين وَخزات الشعور بالذنب.
وفي النهاية، هذا هو أسلوب العالم لعلاج آثار الخطية دون التوبة والرجوع إلى الله وقبول ذبيحة المسيح الكفَّارية.
ولحديثنا بقية بمشيئة الرب