جلس صموئيل؛ ذلك الطفل الذكي الموهوب، على المائدة في مطعم بإحدى الدول العربية مع أسرته، وأمامه على نفس المائدة كان يجلس عمو إسحاق، خادم مدارس الأحد والذي يحبه صموئيل جدًّا. لكن في ذلك اليوم بدا الحزن الشديد على وجه صموئيل، وما أن لاحظ عمو إسحاق ذلك الأمر حتى سأل صموئيل على الفور: “ما لك، صموئيل حبيبي؟” فأجابه صموئيل وما زالت ملامح الضيق على وجهه: “لقد فقدت مركبتي الورق!” ثم أردف وهو يقلب شفته السفلى ليؤكِّد ضيقه الشديد: “ماما صنعتها لي وكنت ألعب بها.. لكنني فقدتها”.
ابتسم عمو إسحاق ابتسامة واثقة، جعلت الأمل يسري في كيان صموئيل من جديد، حتى بَدَت ملامحه تهدأ، وانتقلت الابتسامة من وجه عمو إسحاق إلى شفتي صموئيل، خصوصًا حينما أجاب عمو إسحاق قائلاً: “لا تحزن، حبيبي.. أعدك بأن أصمِّم لك مركبًا خشبيًّا رائعًا لتلعب به بدلاً من ذلك المركب الورقي الذي فقدته”.
وهنا اتسعت الابتسامة على وجه صموئيل، ثم تغلَّب عليه الفضول فسأل عمو إسحاق قائلاً: “متى يا عمو إسحاق؟” أجابه عمو إسحاق بنفس الابتسامة الواثقة: “خلال أيام قليلة يا حبيبي”.
وبالفعل ذهب عمو إسحاق إلى ورشة نجارة، وطلب منهم تصميم مركب خشبي فخم. وبعد أيام قليلة أخذه معه وقدَّمه إلى صموئيل، الذي كان يحسب الأيام والساعات في انتظار ذلك المركب، وما أن رآه حتى ابتسم ابتسامة واسعة، وجرى نحو عمو إسحاق مبتهجًا، وأخذ منه المركب بعد أن قَبَّل عمو إسحاق وقدَّم له الشكر على هديته.
كنت أظن، مثلك، أن القصة انتهت عند هذا الحد، لكن الأخ إسحاق - الذي روى لي القصة بنفسه - صمت قليلاً بعد أن وصل إلى هذا الجزء من القصة، ثم سرح قليلاً وهو يتذكر ما حدث، وبعدها وجدت وجهه يشع بفرح غريب وهو يُكمل قصته لي قائلاً: “هل تعلم ما الذي حدث بعد ذلك؟! لقد جاءني صموئيل يومًا وهو يحمل في يده مركبًا من ورق، وقدَّمه لي قائلاً: عمو إسحاق، أنا كنت عاوز أشكرك على المركب الخشب ومش عارف إزاي... كل اللي قدرت أعمله هو المركب الورق دا... ممكن تقبله مني؟ أنا عارف إنه مش زي المركب بتاعك بس هو دا اللي قدرت عليه”.
ساد الصمت لحظات بيننا وأنا أحاول أن أستوعب القصة؛ فيا له من موقف مؤثر ترك أثرًا حقيقيًّا في نفسي، وكذلك في قلب ونفس الأخ إسحاق، حتى إنه ما زال محتفظًا بذلك المركب الورق الذي أهداه له صموئيل في ذلك اليوم.
عزيزي الشاب، أختي الشابة،
لقد صنع الرب معنا عملاً أعظم بما لا يُقاس من الأمر الذي صنعه الأخ إسحاق مع صموئيل، لكن السؤال: هل فكَّرنا أن نقدِّم له الشكر على ما صنعه معنا بشكل عملي؟ أحيانًا شعورنا بأننا لا نستطيع تقديم شيء مناسب يمنعنا من تقديم أي شيء، رغم أن الرب لا ينظر للشيء بناءً على قيمته، لكنه ينظر إلى القلب الذي يقدِّمه، ينظر إلى الدوافع المقدَّسة والمشاعر الصادقة التي تقف خلف ما نقدّمه. فهل ننسى موقف الأرملة التي ألقت فلسين في الخزانة بينما كان الأغنياء من حولها يلقون كثيرًا؟ لقد مدحها الرب على ما فعلته حتى إنه قال عنها: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا» (مرقس12: 43، 44).
لقد رأى الرب قلب الأرملة الملتهب غيرة وحبًّا من خلال هذا العطاء البسيط. رأى الدافع الذي جعلها تفعل ذلك دون خوف أو خجل؛ لذلك مدحها الرب بنفسه. إنها تذكِّرنا بقصة صموئيل، فكأنها تقول لله: “هذا كل ما استطعت أن أفعله لكي أقدِّم شكري وامتناني لك”.
لقد احتار مرنم مزمور116 نفس حيرتنا يومًا، فقال في مزموره الشهير: «مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟ كَأْسَ الْخَلاَصِ أَتَنَاوَلُ، وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو» (مزمور116: 12، 13). سأل نفسه وهو في حيرة ما بين عمق محبة الرب وإحساناته، وبين قِلّة حيلته وضعف إمكانياته: ماذا أَرُد للرب؟ ثم بعد بحث وتفكير اكتشف أن أعظم وأروع ما يمكن أن يقدمه للرب، رَدًّا على إحسانات الرب معه، هو أن يتناول كأس الخلاص، ويتمتع بذلك الخلاص. ففرحة المُعطي تكتمل حينما يرى المُعطَى له متمتِعًا بالعطية. فالأب يستمتع حينما يشاهد ابنه متشبثًا باللعبة التي أحضرها له ومستمتعًا بها، وقمة سعادته حينما يدخل غرفة الطفل فيجده نائمًا وهو ممسكٌ باللعبة بكلتا يديه. هكذا هو الحال معنا فأروع رد وأجمل إعلان يمكنك أن تعلن به مدى شكرك لله ومدى شعورك بإحساناته، أن تقبل خلاصه الذي أعدَّه لك وأكمله تمامًا بموت المسيح على الصليب وقيامته.
أما إذا كنت تشعر بالامتنان والشكر لله وأنت مؤمن، فما عليك إلا أن تتمتع بهذا الخلاص، وتشهد عنه كل يوم في مجال دراستك أو عملك وبين أقربائك وأصحابك. اشهد عن المسيح بابتسامتك في وجه كل مَن تلتقي بهم! شارك مَن تقابلهم بما تعلمته من كلمة الله! أنقذ أصحابك من أبدية تعسة تنتظرهم وتمِّم وصية الكتاب: «أَنْقِذِ الْمُنْقَادِينَ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمَمْدُودِينَ لِلْقَتْلِ. لاَ تَمْتَنِعْ!» (أمثال24: 11).
أما أقل شيء تفعله لمن أحبك ومات لأجلك وأنقذك من سلطان الظلمة وأعطاك حياة أبدية، فهو أن ترفع قلبك كل يوم نحو السماء وتقول بملء الفم والقلب: “أشكرك يا رب!”