معلوم لدينا أن الشجاع هو ذلك الشخص الجريء المقدام الذي يواجه الأزمات ببسالة وثبات، ولا يخشى الضرر ولا يهاب الخطر. أما الهروب فهو سمة الجبناء. إنما موضوع شخصيتنا الذي سنتأمل فيه معًا فهو عن شاب في مقتبل العمر، أضاف لونًا جديدًا من الشجاعة الفريدة التي تمثلت في الهروب من موقف رهيب. هذه الشجاعة صنعت من هذا الشاب الأمين بطلاً تُمتَدح فضائله، ومثلاً يُحتَذى به عبر الأجيال.
موقف فاصل لشاب فاضل
دعونا نقرأ من سفر التكوين أصحاح 39 قصة هذا الشاب: يوسف. ستجدونه جميلاً بالحق، لا لكونه فقط شابًا وسيمًا حلو الصورة وحسن المنظر، لكن خصاله الراقية قد أضافت لحُسن طلعته هيبة وجاذبية من نوع خاص. ذلك الشاب الذي كلّلته الأمانة وزيّنته الاستقامة، يستحق أن يخلع الشباب له قبعاتهم تحية وتقديرًا له، مهيبين بشجاعته المتفردة التي تألقت في موقفه الصائب وهروبه الواجب.
وقف يوسف الشاب موقفًا اتّسم بالرجولة في قراره واصطبغ بالتقوى في إصراره، فجاء رفضه القاطع للإغراء الشديد لكمة قوية في وجه الشهوة، بل طعنة في مقتل. وبمعونة الرب انتصر، فالرب وعد أن يتشدد مع جميع الذين قلوبهم كاملة نحوه. وقف يوسف في صفِّ الرب، وهتف هتاف الحرب، فصاح صيحة الولاء لسيده العظيم، تلك الصرخة التي تردَّد صداها في سرداب التجربة المظلم، فأفزَعت حشرات الليل الرديئة حوله. وانطلق إلى النور ليعتلي تل العفاف منتصرًا رافعًا راية الظفر، راية مكتوب عليها “الهروب من الشهوات هو شيمة الأتقياء”.
نجاح بإمتياز مع مرتبة الشرف
الامتحان الذي اجتاز فيه يوسف كان صعبًا، وفي ظروف صعبة. كان شابًا، كأي شاب، عنده غريزة تميل للجنس الآخر، وله احتياجات عاطفية كأي إنسان، بالإضافة لأنه حُرم من حنان الأم مبكرًا، ومن محبة أبيه الخاصة التي كان مغمورًا بها، وجُرح قلبه الصغير بخيانة وغدر إخوته، ولم يلقَ من الغرباء سوى القسوة والجفاء. ها قد جاءت لحظة الامتحان الفاصلة، فوجد نفسه أمام اختيارين لا ثالث لهما: إما السقوط، أو الفرار. أرجو أن نتذكر أنه لم يكن يشاهد مشهدًا مثيرًا على الشاشة، أو يتعرض لملاطفة من بعيد تداعب مشاعره؛ بل وجد امرأة تمسكه بيديها بلا حياء، تلح عليه أن يضطجع معها ولم يكن أحد غيرهما في البيت. يا له من امتحان صعب!
ماذا فعل هذا الشاب المسكين في هذا الصراع الداخلي الحامي الوطيس، بين رغبة جسدية تبتغي المتعة وإن كانت وقتية، وخسارة السقوط الرهيب وإهانة إلهه العظيم. لم يأخذ الاختيار من يوسف وقتًا طويلاً، فنراه قد انتفض انتفاضة العفة وضبط النفس، حسم الأمر ورفع الرأس، وصرخ صرخة جبار بأس: «كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟». كأنه يناجي نفسه، قبل غيره: “يا نفسي تذكري أن ما يسمونه لذة ومتعة هو بالنسبة لي شر عظيم؛ لأنه في حق الإله العظيم”.
ماذا فعل يا ترى عندما أمسكت ثوبه؟ ترك ثوبه في يدها وهرب! كأنّه يقول لتلك المرأة الوقحة، وأفكار عميقة تراوده تتسابق مع دقات قلبه الرقيق: “لا مجال للمداعبة أو حتى المعاتبة. فالهروب عاريًا بلا ثوب أكرم عندي من حمل عار الذنب، عار الخطية الثقيل والمشين. خذي الثوب إن أردتِ واصرخي واظلمي كما شئتِ، فنار الظلم والبهتان أهون من حرقة الشعور بالذنب، وألم القيود الحديدية في رجليَّ خير لي عن ملاطفات كلامك في أذنيَّ، وتراب السجن أرحم من فراش خيانة إلهي العظيم”.
نجح يوسف بإمتياز مع مرتبة الشرف، وسِر نجاحه في هروبه غير المتواني.
نعم. من سمات الشجاعة المقدسة، الهروب من مزالق الشهوات وفخاخ النجاسة.
كن شجاعًا واهرب ولا تلعب بالنار
عزيزي الشاب، نحن نعيش في أيام نُحاط فيها بمؤثِّرات الشر ومحرِّكات الشهوة أكثر من أي وقت مضى. صارت الخطية محيطة بنا بسهولة، إذ صارت في متناول اليد بكل ما تعنيه الكلمة. لم يزَل طريق النجاة يبدأ بفعل واحد وهو: اهرب، كن شجاعًا واهرب، كن شجاعًا وأغلق الباب في وجه الشهوة بإصرار وبعزم القلب. اخضع لكلمة الرب، ولا تصنع تدبيرًا لأجل الشهوات، أي لا تمهد أو ترحب بمصادر الشهوة. لا تسِر في الطرق الزلقة التي تعلم تمامًا أنك ضعيف ولا تقاوم مغرياتها. إن أردت كلامًا أكثر وضوحًا، دعني أقول لك احذر من مواقع النجاسة على الانترنت، وراجع نفسك في ما يتعلق بعلاقاتك مع الجنس الآخر. لا تلعب بالنار؛ لماذا تحرق ثيابك (أي تفضح نفسك) إن احتضنتها؟ ولماذا تكوي رجليك (أي تعاني وتحصد مُرَّ الحصاد) عندما تسير على جمرها؟ الخطية نار لا تجلب سوى العذاب والدمار.
يمتلئ الكتاب بالتحريضات التي تدعونا أن نهرب من الشرور، وأرجو أن تقرأها في خلوتك في خشوع وخضوع للرب. الهرب من محبة المال (1تيموثاوس6: 10، 11)، الهرب من الفساد في العالم (2بطرس1: 3، 4)، الهرب من الشهوات الشبابية (2تيموثاوس2: 22)، الهرب من عبادة الأوثان (1كورنثوس10: 14)، الهرب من خطية الزنا (1كورنثوس6: 18)، الهرب من كل شبه شر (1تسالونيكي5: 22).
بعد أن تهرب تلذذ واشبع
في الختام، أدعوك صديقي الشاب أن تفعل أمرًا هامًا بعد هروبك الشجاع: أن ترتمي على الرب في الحضن الرحيب، حضن الحبيب، لتستقي من مصدر الشبع الحقيقي القادر أن يروي ظمأك ويشبع جوعك ويحفظك دائمًا في طريق النصرة. فتتدرب يوما وراء يوم، فيزداد حبك وتقديرك للرب، وتراعي اعتبارات قداسته، فتُبغض الخطية من كل قلبك، ويزداد إصرارك المقَّدس أن تقف بشجاعة في صفِّه، مجاهدًا ضد الشر والخطية فتحفظ نفسك مزكى، عاملاً دومًا مرضاته.