رأينا في العدد السابق أن العالم الذي يُحذِّرنا منه الكتاب، باعتباره أحد أعداء المؤمن، هو ذلك النظام المُرتَّب والمُزيَّن بإتقان، الذي أسسه ويرأسه الشيطان بعد دخول الخطية، وهو جميل وجذاب ومتطور ويروق للإنسان. وقد تكوَّن ليعالج الآثار التي ترتبت على دخول الخطية، ويخفف المعاناة التي سببتها، بدون الرجوع إلى الله والبحث عنه، حيث أنه مصدر الراحة والأمان الحقيقي.
وقد رأينا أن الإنسان قد شعر بالخسارة عندما طُرد من الجنة، لكن العالم يحاول أن يعمل له جنات وفراديس فلا يفكر في الرجوع إلى الله. كما أنه شعر بالذنب في الضمير والاحتياج إلى الغفران. وهذا الشعور يمكن أن يكون بركة إذ يقود الإنسان إلى التوبة والعودة. لكن العالم يُقدِّم للإنسان بديلين هما: التدين والفلسفة البشرية بما يتناسب مع نوع الشخصية. والهدف في الحالتين إراحة الضمير وإزاحة الشعور بالذنب دون التوبة والبحث عن غفران الله. وعرفنا أن التدين هو أن يعمل الإنسان أشياء لأجل الله يُكفِّر بها عن ذنوبه، ظانًا أنه بها سيُصبح مقبولاً أمام الله، وأن الله حتمًا سيرضى عنه، وبذلك يهدأ ضميره المُحتج ضده. وهذا ما فعله قايين، وكلنا نعرف النتيجة. وهذا يدل على جهل الإنسان بطبيعة الله ومقاييس قداسته، فهو إلى ملائكته ينسب حماقة، والسماوات ليست بطاهرة أمام عينيه، فكم بالحري مكروه وفاسد الإنسان الشارب الإثم كالماء. وقد وُضع الإنسان تحت الامتحان في تدبير الناموس 1500 سنة، فكانت النتيجة المؤسفة أنه لم ينجح أحد. إلى أن جاء المسيح ليخلِّص الخطاة بموته لأجلهم على الصليب، آخذًا مذنوبيتهم، دافعًا ديونهم، محتملاً قصاصهم، مُقدِّمًا غفرانًا مجانيًا لكل من يؤمن إيمانًا قلبيًا حقيقيًا، تائبًا عن خطاياه وراجعًا إلى الله. وهذا ما يعطي الراحة والسلام الحقيقيين.
أما العلاج الثاني الذي يُقدِّمه العالم لمشكلة الشعور بالذنب فهو الفلسفة البشرية. وهي إعمال العقل البشري في محاولة فهم الله وأموره بدون الإعلان المُقدَّم في المكتوب. وهذا ينشئ صورة مشوَّهة عن الله. وبدون الإيمان بما أعلنه الله في كلمته لا يمكن أن نعرف صفاته وطبيعته ومطالبه. والناس لما عرفوا الله، بالعقل فقط، لم يمجِّدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي (رومية1: 21). لقد صوَّرت الفلسفة للإنسان أن كل ما يفعله ليس خطية ولا يغضب الله، وأن هذه احتياجات ورغبات طبيعية لا بد من إشباعها، والله هو الذي خلقها فكيف يدينها؟ وما الذي يضير الله إن كان الإنسان يفعل شيئًا يحبه ويسعد به، طالما لا يؤذي أحدًا ولا يظلم أحدًا؟ وقد وصلوا في تطرفهم إلى إباحة النجاسة والشذوذ، ولا تُعتبر هذه الأمور في نظرهم خطايا تستوجب الدينونة، وإنما اختلاف في التكوين، والله هو المسؤول عن ذلك، فكيف يدين الله ذلك؟ وهذه الفكرة مقبولة من قطاع كبير من الشباب المتحرر الذين لا يميلون إلى الدين والتدين، ويعتبرون أن المسألة نسبية، وأنها أفكار وآراء، وأن رجال الدين والخدام هم السبب في إشعار الآخرين بالذنب دون مُبرر، وأنهم مُعقَّدون ومُتزمِّتون، ولا احتياج أساسًا للغفران حيث أن الله بعيد في سماه ولا يفرق معه ما يفعله الإنسان. هذا الفكر هو ما تُقدمه مدرسة العالم للشباب اليوم لإسكات الضمير إذا احتج، وهو نتيجة رفض الإعلان المُقدَّم في كلمة الله والسير بآراء الناس أصحاب النظريات الفلسفية التحررية.
الأمر الثالث الذي انتجته الخطية هو الشعور بالفراغ والعطش المستمر. وهذا سيقود الشخص للبحث عن وسائل مشروعة، أو غير مشروعة، لملء هذا الفراغ، وضمن ما يُقدمه العالم لملء الفراغ ما يلي:
الانهماك في العمل الزمني. وهو أمر مشروع ولا غبار عليه، لكنه قد يبتلع الوقت والجهد بالكامل ولا يدع الإنسان يفكر في الله أو الأبدية أو الاحتياجات الروحية. وفي دوامة التفوق الدراسي والنجاح الزمني والمكسب المادي، لن يشعر الشخص بالفراغ، بل سيشعر بسعادة الإنجاز، حتى لو كان عبدًا لهذا العمل، ولا يجد أي وقت لاسرته أو لنفسه. لقد صارت له الحياة هي العمل.
الفن والطرب واللهو والموسيقى والمسرح والرقص والأفلام والأغاني وكل أنواع التسليات ووسائل الترفيه والتواصل الاجتماعي على الإنترنت. كل هذا يجعل الإنسان أمام بحر لا نهائي من المسرّات ووسائل الجذب وازدياد المعرفة في كافة المجالات التي يجدها بسهولة على الفضائيات وشبكة المعلومات، وهي أمور مُحبَّبة ولها سطوة على الكيان لا يمكن إيقافها. فنجد الشخص جالسًا أمام الشاشات بالساعات الطويلة لا يتحرك ولا يستطيع المقاومة. لقد ملأ العالم فراغه لكي لا يفكر في الرجوع إلى الله. هذا يناسب نوعية من الشباب المُرفَّه الذي لا يحتمل المعاناة ولا يحب ضغط العمل الزمني المضني مهما كان المقابل المادي. إنه يريد الاستمتاع بالحياة.
إطلاق العنان للشهوات والتحرر والإباحية وإدمان المخدرات والجنس لملء الفراغ بالاستقلال عن الله. ويظن الإنسان أنه بذلك سيشبع ويروي عطشه، ناسيًا أن «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا (يزداد عطشًا)» (يوحنا4: 13). ولقد قال الحكيم: «العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع، كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن» (جامعة2: 7). وهذا ما اختبرته المرأة السامرية التي تزوجت خمس مرات ولم يمتلئ فراغها، ثم عاشت بلا زواج مع شخص ليس هو زوجها، وأيضًا لم يمتلئ فراغها، إلى أن التقت بالمسيح الذي قدَّم لها العلاج وأنعشها بالماء الحي، فارتوت.
وهكذا نرى أسلوب العالم المتنوع بما يناسب كل شخص، مُقدِّمًا ما يملأ فراغ الإنسان واعدًا إياه بالسعادة، والإنسان يلهث وراءه ليكتشف بعد حين أن بهجة الأرض سراب، وأن الكل باطل وقبض الريح. وقد قيل حقًا لهذه النوعية: “إن الوهم أفضل من الحقيقة، والخيال أفضل من الواقع، وكل شيء يُفقَد بالامتلاك”. ولا علاج للإنسان الذي يشعر بالفراغ سوى امتلاك المسيح والشبع به.
وللحديث بقية