ما زال صوت الرب ينادي «اتبعني أنت»، ومن له أذن للسمع فليسمع، وكفانا نظر لمن هم حولنا إن كانوا يتبعون أم لا، حتى لا نفشل؛ فالدعوة فردية. وكفانا نظر للعالم: بمغرياته وشروره، حتى لا يجذبنا. “اتبعني أنا”، لا طائفة أو كنيسة أو عقيدة أو فرد مهما كان اسمه، بل “أنا” أي المسيح شخصيًا. كان هذا ملخّص لمقال سابق بدأنا به هذه السلسلة. وفي هذا العدد سنواصل تأملنا في:
أشخاص دعاهم الرب ليتبعوه
كل المؤمنين لهم النهاية السعيدة عند انتهاء طريقهم هنا، وهي الوصول للمجد والوجود مع المسيح للأبد. لكن ليس كل المؤمنين تلاميذ لهم حياة اتِّباع الرب هنا، وأخذ مكانهم كتلاميذ خلف المعلم. فالبعض اكتفى أنه تجاوب مع الدعوة الأولى «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم»، وأتى للربّ ونال الخلاص وسعِدَ بغفران خطاياه، لكنه غير مهتم بإتباع الرب الآن، وتكريس الحياة له ليصنع الرب من خلالها ما يمجِّده.
اختار الرب اثني عشر تلميذًا «ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلِيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا» (مرقس3: 13، 14)، البعض نقرأ أن الرب دعاه دعوة شخصية بالقول: «اتبعني» وهم: بطرس وأندراوس (متى4: 19)، يعقوب ويوحنا (متى4: 21)، تلميذ بلا اسم (متى8: 22)، متى العشار (متى9: 9)، فيلبس (يوحنا1: 43). ومع كل دعوة هناك امتحان ودرس نتعلمه. فلنلقي نظرة على بعضهم:
1– بطرس واندراوس وامتحان العمل الزمني
«وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ» (متى4: 18-20).
للعمل الزمني مساحة هامة في الحياة «فَإِنَّنَا أَيْضًا حِينَ كُنَّا عِنْدَكُمْ، أَوْصَيْنَاكُمْ بِهذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا» (2تسالونيكي3: 10). والرب أراد امتحان التلميذين في هذا. مع ملاحظة أن الدعوة لم تكن في الوقت العصيب الذي لم يمسكوا فيه سمكة واحدة. فربما لبّوا الدعوة فورًا هربًا من المعاناة الكثيرة والربح القليل، وفي قلبهم ثقة أن صاحب الدعوة سيلبي احتياجاتهم. لكن في لوقا5: 6-11 نجد أن قرار ترك الكل واتِّباع الرب كان في الوقت الذي اصطادوا فيه أكبر كمية سمك في حياتهم، وذاقوا المكسب الوفير وهم في قمة النجاح. وهنا الامتحان: هل يضحوا بكل هذا ويتركوه ويعطوا الرب الأولوية ويتبعوه؟ ليس مطلوبًا من كل المؤمنين فعل هذا، ولكن هل في القلب رغبة واستعداد أن يكون الرب قبل كل شيء؟ وأن نضحي بما نملك – بطريقة أو بأخرى – إذا أراد الرب ذلك؟ أقول هذا لأن كثيرين أصبحوا أسرى العمل والتجارة والمكسب وسقطوا في دوامة الوظيفة والشغل متناسيين الرب في كل ذلك، وتلك هي المشكلة.
2– متى وامتحان المركز والشهرة
«وَبَعْدَ هذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّارًا اسْمُهُ لاَوِي جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي. فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ» (لوقا5: 27، 28).
كان للاوي (متى) مركز عالمي كبير يجمع بين الجاه والثروة. والامتحان هنا: هل يترك مركزه ويتبع يسوع المتضع الذي لا يعرفه أو يعترف به أحد؟ إن الشهرة والمركز العالي من الصعب على الإنسان التخلي عنهما إلا بثورة تطيح به. فهل بكلمة «اتبعني» يتخلى متى عن هذا؟ هذا هو التنازل العظيم. وإن كان قد فقد مركزًا ودخلاً. لكنه وجد الشرف للحاضر وضمان للمستقبل أنه في كل شيء استغنى في المسيح (1كورنثوس1: 5).
3– أحد التلاميذ وامتحان العواطف والمشاعر الإنسانية
«وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: اتْبَعْنِي، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ» (متى8: 21، 22).
للوالدين واجبات مقدسة، وقد أوصى الرب بإكرامهم ومحبتهم، فهل يدعوا الرب هنا لشيء آخر؟ بالتأكيد لا. ولكن لا بد أن يكون المسيح أولاً، ولا سواه. وهذا التلميذ رأى في ظروف أبيه عذرًا مقبولاً وحجة يتذرع بها ليؤجِّل تبعيته للمسيح ويعطي الأولوية لسواه “أولاً أدفن أبي”. فتلميذ المسيح مكرَّس ليقود الناس لا إلى الموت - الدفن - بل من الموت - روحيًا - إلى الحياة الأبدية. وهذا طبعًا لا يمنعه من دفن والده إذا مات. فقد دعاه الرب لإتّباعه مهما كانت الكلفة، تاركًا الموتى روحيًا - وما أكثرهم - القيام بدفن الموتى جسديًا، حتى لا يتعطل كثيرًا كإبراهيم بسبب أبيه في حاران (تكوين11: 31، 32)، وحتى لا ينشغل بمراسيم العزاء والتي تمتد لأسابيع عند اليهود ثم تقسيم الميراث.
دروس للنفوس
الرب يريد من تابعيه الاستعداد للتضحية بالمال والمكسب والمركز والشهرة، بل وبالارتباطات والعلاقات في بعض الأحيان. فهو لا يريد تابعين أيام الأجازات، أو وقت الفراغ، أو بعد الخروج على المعاش، أو من يبتغوا دخلاً أكبر وشهرة وصيت في إتباعه.
الرب لا يقبل من تابعيه الوسطية في الحياة بل كما قال له بطرس: «تركنا كل شيء وتبعناك»، ولا يقبل الضحالة أو التهاون، بل التشبه الكامل بحياته على الأرض كمثالنا.
تابعوا الرب كانوا: قليلين (12 تلميذًا)، صيادين فقراء، قيل عن بعضهم: “عديم العلم وعامي”، ولكن النوعية أهم من الكمية، فعدد صغير من تلاميذ مخلصين، محبين للرب، مدركين لحقيقة استحقاق الرب للسيادة على كل الحياة كمن مات لأجلهم وقام (2كورنثوس5: 15)، أمكنهم بعد سنوات قليلة فتن المسكونة وتغيير العالم.
اتبع الرب أولاً قبل الخدمة «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي» (يوحنا12: 26)، حتى تتشبه به في كل شيء، وتصل لمستوى نضوج روحي يؤهلك للخدمة.