قد تقولها مقاطعةً لحديث لا تفهمه أو لا ترغبه، فينطلق لسانك: المهم.. ما علينا!! أو قد تسمعها نصيحةً من مدرِّسك، قبل الامتحانات ووقت المراجعات: أهم حاجة نعمل “ما علينا” والباقي على ربنا!!
كلمة ما أقصرها (فقط حرفين جر “ما” و“على”)، تنتشر كثيرًا بمرادفاتها الرسمية (وبناءً عليه!!)، أو الشبابية (لخَّص، لِم الحوار!!). ولكننا هنا سنغوص في معناها الروحي، وخاصة المرتبط بمسؤوليتنا نحن في العلاقة مع الله، لنعرف كيف يعمل الله “ما عليه”، وكيف يجب علينا نحن أن نعمل “ما علينا”؟!!
“ما علينا” والصراع!
في مرحلة ما من مراحل الإيمان المسيحي، يجتاز المؤمنين في صراع ليس بالبسيط، فبعد حصولهم على الحياة الجديدة، يكتشفون اكتشافًا مزدوجًا مذهلاً، في الوجه الأول منه؛ أن هناك قائد قدير وحكيم جاء ليتسلم قيادة سفينة حياتهم، وأنه من هذه اللحظة سيضمن لهم أمان المسير وضمان المصير، وفي الوجه الثاني من الاكتشاف؛ أن هذا القائد (أقصد “الإله” بالطبع) لا يفعل كل شيء في السفينة - رغم أنه قادر على ذلك - وأنه يتوجب على المؤمنين أنفسهم أن يقوموا ببعض المسؤوليات معه، لكي تصل سفينة حياتهم لبر الآمان، فكما يوجد “ما عليه” يوجد أيضًا “ما علينا”!!
وهنا يضطرب الفكر، ويبدأ الصراع، وتكثر الأسئلة: ما هي مسؤوليتنا وما هي مسؤولية قائدنا؟ ولماذا لا يعفينا القائد من المسؤولية ويقود هو حياتنا دون الحاجة لنا؟! وما الحد الفاصل بين “ما عليه” من نعمة وبين “ما علينا” نحن من مسؤولية؟!!
وما يزيد هذا الصراع توهّجًا، أن أغلب المؤمنين يتأرجحون حائرين بين مدرستين فكريتين. المدرسة الأولى تقول: أترك نفسك بالتمام على نعمة الله، فأنت أضعف من أن تشارك الله في قيادة حياتك. وهؤلاء تجدهم دائمًا ينتظرون أن “يثقلهم” أو “يشغلهم” الرب للقيام بمسؤولياتهم المعروفة (زيارات، كرازة، قداسة)، خوفًا من أن يقوموا بها بالاستقلال عنه، فيفقدون الاتكال على نعمته، وشعارهم أن “ما عليه” من نعمة، هو أكبر من “ما علينا” من مسؤولية!!
أما المدرسة الفكرية الثانية فتقول: ما هذه الدروشة؟! المسيحية ليست للكسالى والعاطلين؟ فالحياة الروحية طابعها الاجتهاد والتدريب المستمر (2بطرس1: 5). وهؤلاء تجدهم غارقين في التفكير والتخطيط (لجان، نشاطات، جلسات)، خوفًا من الانحراف للدروشة والتواكل على الله!! وشعارهم “ما علينا” من مسؤولية، هو أكبر من “ما عليه” من نعمة!!
“ما علينا” والشراكة!
ومع قسوة هذا الصراع وشدَّته، وما يصحبه من شكوى إبليس الضميرية، وتيبُّس الحياة الروحية، إلا أن الكتاب المقدس يشرح لنا أن العلاقة مع الله ليست - كما يظن البعض - علاقة صراع بين طرفين، كل منهما له نسبة أكبر من الآخر، ولكنها علاقة شراكة رائعة، تجمع بين الله (الكلي القدرة)، وبين الإنسان (الترابي النشأة)، يقوم كل منهما بمسؤولياته، ليس لأن الله عاجز عن القيام بها جميعًا، حاشا، ولكنه لأنه يُسَرّ أن يشترك الإنسان معه في بعض المشاريع مشتركة، وأن يحدث انسجام كامل بين “ما عليه” وبين “ما علينا”!!
وقد طبَّق الله هذه الشراكة عمليًا مع آدم أول إنسان، في عدة مشاريع، منها مثلاً مشروع تسمية الحيوانات والطيور بأسمائهم فنقرأ «وجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا» (تكوين2: 19). وهنا نجد الله القدير يقوم بـ“ما عليه”، فيخلق الحيوانات والطيور ويحضرها لآدم. ورغم أن الله هو الأقدر على تكملة المشروع بمفرده وتسمية الحيوانات دون الحاجة لآدم، لكن علاقة الشراكة مع آدم جعلته يترك لآدم أن يعمل “ما عليه” أيضًا، ويشترك معه في أن يدعوها بأسماء، فيا للفخر!!
“ما علينا” والأمثلة!
إذاً فهمنا أعزائي، أن العلاقة مع الله علاقة شراكة وليست صراع، وأن الله يُسَرّ بأن يعمل “ما عليه” ويُسَرّ أكثر بأن نعمل نحن “ما علينا”، وأن هذا لا ينقص من قُدرته أو نعمته، ولا يجعلنا نستقل عنه أو نتكل على غيره بل على العكس يجعلنا دائمًا شاعرين باحتياجنا له؛ وهنا نأتي لبعض الأمثلة التوضيحية، لأناس فهموا علاقة الشراكة مع الله وعاشوها، فأدّوا دورهم ومسؤوليتهم و“ما عليهم”، وفي نفس الوقت قَبِلوا وقدَّروا نعمة الله الذي يصنع “ما عليه” أمامهم على أمجد شكل!!
وهنا أكتفي بمثال فردي ومثال جماعي. وأبدأ بالفردي الذي يخصّ دانيآل الذي «جَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ، فَطَلَبَ مِنْ رَئِيسِ الْخِصْيَانِ أَنْ لاَ يَتَنَجَّسَ». فهنا دانيآل عمل “ما عليه”، وقرَّر قلبيًا وإراديًا أن لا يتنجس، وعبَّر عن هذه الرغبة في الطلب من رئيس الخصيان، وكان على استعداد لتحمّل تبعات هذا الطلب الخطير. ولأنه في علاقة شراكة مع الله، فالله أيضًا عمل “ما عليه” «وَأَعْطَى اللهُ دَانِيآلَ نِعْمَةً وَرَحْمَةً عِنْدَ رَئِيسِ الْخِصْيَانِ» (دانيال1: 8، 9). وهنا أثمرت الشراكة بين نعمة الله ومسؤولية دانيآل، وكانت النتيجة قداسة نادرة، وشجاعة بقيت مثالاً للأجيال!!
أما المثال الجماعي فعاشته الكنيسة الأولى فنقرأ «وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ. وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ الشَّعْبِ»، فهم هنا عملوا “ما عليهم” من نحو مشاركتهم لاحتياجات بعضهم، بكل بساطة ومحبة، وتكوين المجتمع اللازم لأي مؤمن، فكان من الطبيعي أن يعمل الله “ما عليه” أيضًا، وينمّي كنيسته ويضّمها لهذا المجتمع الصحي «وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ» (أعمال2: 44‑47). وكانت النتيجة كنيسة شاهدة، بقيت مثالاً تتمنى تكراره الأجيال!!
وإني أترك لقارئي العزيز، أن يتجوّل ببصره وبصيرته، في كل أرجاء الكتاب المقدس، ليفهم أن في كل عمل عظيم أو مشروع مبهر، كان فيه الله يعمل “ما عليه”، ويترك للإنسان أن يعمل “ما عليه” أيضًا، ليس لأنه لا يقدر أن يقوم بدور الإنسان، حاشا، ولكن لأنه يريد أن يستخدم الإنسان إرادته، ويدرِّب نفسه للقيام بمسؤوليته، فكما قال بولس «اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ»، قال لنا بعدها «فاِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ» (فيلبي2: 13، 14). لذا فعلينا أن نترك فورًا دروشتنا، ونحطِّم بأنفسنا شرنقتنا التواكلية، وننطلق للمشاريع الإلهية المُعَدّة لنا، ونكتشف روعة أن الله يعمل “ما عليه”، وأن نعمل نحن أيضًا “ما علينا” عالمين أن الله يعطينا كل ما يلزمنا لنتمم ذلك!!
عشت كتير في صراع وهمي، بين النعمة والمسؤولية
كنت فيه بألومك وبسأل: انت معايا ولا عليَّ؟!
لكن خلاص فهمت قصدك، وعجباني الشراكة معاك
وعرفت أنك في نعمتك، عايز تشغَّل إرادتي وياك
وتشاركني معاك في مشاريعك، هنا في أرضك قبل سماك
جايلك خارج من دروشتي، ومن الأفكار اللي حواليً
إديني أفهم دورك وعملك، وأعمل كمان الدور اللي عليَّ!!