رأينا في الأعداد السابقة دعوة الرب لكل مؤمن: «اتبعني»، دون النظر للآخرين، ودون اتّباع سواه، فرد أو جماعة أو طائفة، هو فقط. ثم دعوته الخاصة لبعض الأشخاص ليتبعوه، والامتحان الذي وضعه أمامهم، والمتعلق بالتخلي عن العمل الزمني وأرباحه (بطرس وأندراوس)، والمركز والشهرة (متى العشار)، والعواطف والمشاعر البشرية (أحد التلاميذ). والخُلاصة أن الرب يريد من تابعيه الاستعداد للتضحية بالمال والمكسب والمركز والشهرة، بل وبالارتباطات والعلاقات في بعض الأحيان؟ فهو لا يريد تابعين أيام الأجازات، أو وقت الفراغ، أو بعد الخروج على المعاش، أو من يبتغوا دخل أكبر وشهرة وصيت في إتباعه. وفي هذا العدد سنتأمل في أشخاص تبعوا الرب بإرادتهم ولسان حالهم:
أتبعك، لأجل... أتبعك، ولكن...
حسن أن تكون هناك رغبة في اتّباع الرب، ولكن: تختلف الدوافع والأهداف، ومدى صدق الرغبة، وهذا ما سنحاول إلقاء الضوء هنا.
هناك من تبعوا الرب طلبًا للشفاء: فنقرأ مثلا «وكان يسوع يطوف... ويشفي كل مرض... فأحضروا إليه جميع السقماء... فشفاهم. فتبعته جموع كثيرة» (متى4: 23-25). والسؤال: هل آمن كل من نال الشفاء ورأى قدرة الرب عليه إيمانًا قلبيًا حقيقيًا بالمسيح؟ الإجابة نجدها في متى8: 1، 13، «ولما نزل من الجبل تبعته جموع كثيرة... وقال (يسوع) للذين يتبعون. الحق الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا (إيمان قائد المئة الأممي بقدرة الرب بشفاء غلامه بكلمة)». فليس الجميع إذًا آمنوا.
وهناك من تبعوه طلبًا للطعام: فنقرأ «وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى... فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعًا كثيرًا مُقبل إليه، فقال لفيلبس: من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء... (وبعد أن أشبعهم)، أجابهم يسوع وقال: الحق الحق أقول لكم أنتم تطلبونني... لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم... أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله... فقالوا له فأيَّة آية تصنع لنري ونؤمن بك (أي أنهم لم يؤمنوا به)» (للفائدة إقرأ يوحنا6).
وهناك من تبعوه “للفرجة على” الآيات والمعجزات التي يجريها (اقرأ مرقس3: 7-11).
وهناك من طلبوا أن يتبعوه طمعًا في مكسب أو مركز زمني أو ديني «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (لوقا9: 57، 58). لماذا قال له الرب هذا ولم يَدْعُه لإتّباعه؟ رأى الرب - الذي يعرف القلوب – أن الدافع عنده هو الحماس الجسدي والثقة بالنفس، فأراد أن يقول له: إتّباعي يعني التخلي عن الكثير من مباهج الحياة ووسائل الراحة، حتى في النوم والحقوق الطبيعية التي ينعم بها حتى الثعالب والطيور. فهل تقبل؟ وغالبًا لم يقبل وتراجع، لأن هذا لم يتفق وطموحه في الحياة، ولأن الكتاب لم يذكر عنه شيء.
وهناك من طلبوا أن يتبعوه ولكن بقلوب مقسَّمة: «وقال آخر أيضًا اتبعك يا سيد ولكن ائذن لي أولاً أن أودع الذين في بيتي، فقال له يسوع ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله» (لوقا9: 61، 62). «يصلح لملكوت الله» لا تعني دخول الملكوت، بل الخدمة داخله لمن دخلوا فعلاً بالإيمان. فهذا الشخص سمح للعلاقات الأسرية والودية – التي لا يلغيها الرب – أن تأخذ الأولوية في علاقته بالمسيح، وكأنَّ أمر اتّباع الرب صعب وخطير فأراد توديع الآخرين وكأنه ذاهب للموت. فيجب أن يكون للرب المكان الأول والأفضلية قبل كل شيء. فلا تردد في أمر إتباع الرب كما فعل أليشع عندما دعاه إيليا (1ملوك19). بل نقول مع بولس «وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي3: 13، 14).
ولكن هناك من تبعوه لأنهم أحبوه: (متى20: 29) «وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ مِنْ أَرِيحَا تَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَإِذَا أَعْمَيَانِ جَالِسَانِ عَلَى الطَّرِيقِ. فَلَمَّا سَمِعَا أَنَّ يَسُوعَ مُجْتَازٌ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: ارْحَمْنَا يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ!... فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا، فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ» (متى20: 29-34). قاربت خدمة الرب على النهاية وما زال الجمع يتبعه وأيضًا عميان القلوب ما زالوا كما هم، فكل ما عرفوه عنه أنه “يسوع الناصري”، ولكن هناك عميان البصر ولهم بصيرة أفضل منهم فعرفوه أنه “ابن داود”، وعندما فتح أعينهما تبعاه. تأمل معي: أعمى محروم من رؤية الطبيعة التي يتمتع بها الجميع، ومن رؤية الأهل والأصدقاء، أشياء كثيرة يسمع عنها ولكنه لم يرَها، وأتته الفرصة وأبصر؛ فماذا يفعل؟! لم يُسرع ليمتِّع عينيه بالطبيعة والناس والأهل أولاً، بل تبع ذاك الذي أبصره أولاً ولا يريد رؤية سواه. نقرأ أيضًا عن نساء كثيرات تبعنه وخدمنه في حياتهن، وعند صلبه – في مشهد هرب فيه الرجال – تبعنه وهن ينظرن ما يحدث، وبعد قيامته ذهبن لينظرن القبر - في الوقت الذي اجتمع فيه التلاميذ في العلية بسبب الخوف من اليهود – فيا لها من محبة العجيبة! (متى27).
دروس للنفوس:
إن مطاليب اتّباع الرب قد تكون عسيرة والكلفة كبيرة. وهذا لا يتوافق مع تنعمات وترفهات هذا العصر الذي نعيش فيه. والعجيب أننا نرى حولنا من يبذلون حياتهم حبًّا في أشخاص ومعتقدات، مع أن ليس لهم يقين كالذي لنا في من نتبعه وما نؤمن به. لكن ما أقل تضحياتنا!
الرب لا يريد تابعين بالأرجل فقط وقلوبهم مع آخر سواه.
المسيح يعرف ليس ما نفعله فقط “أنتم تطلبونني”، بل أيضًا السبب “لماذا نطلبه”. فما أكثر الذين يتبعون الرب ليس بدافع حبهم له بل من أجل أشياء أخري كالخبز. وسؤالي: لماذا نطلب، لماذا نرنم، لماذا نخدم، لماذا نذهب للكنيسة...؟
الحرث يسبق الزرع، فالذي لا يعرف كيف يحرث الأرض ويديه وعينيه على المحراث، كيف سيقوم بالأصعب ويذهب بالبكاء حاملا مبذر الزرع