رأينا فيما سبق أن العالم الذي يُحذِّرنا منه الكتاب باعتباره أحد أعداء المؤمن هو ذلك النظام المُرتَّب والمُزيَّن بإتقان، الذي أسَّسه ويرأسه الشيطان بعد دخول الخطية، وهو جميل وجذَّاب ومتطور ويروق للإنسان. وقد تكوَّن ليعالج الآثار التي ترتبت على دخول الخطية، ويُخفِّف المعاناة التي سبَّبتها، دون الرجوع إلى الله والبحث عنه، كمصدر الراحة والأمان الحقيقي، ليظل الإنسان بعيدًا ومفصولاً عن الله. إنه يُقدِّم له السعادة في الأمور المادية والحسية، ولكن سرعان ما يكتشف الإنسان أن «الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس» (جامعة2: 11).
وقد رأينا أن الإنسان قد شعر بالخسارة إذ فقد الجنة التي كان يعيش فيها، وأنه شعر بالذنب في ضميره، وأنه شعر بالفراغ النفسي العميق. والشيطان حاول من خلال النظام العالمي المتكامل أن يعوِّض الإنسان بجنات وفراديس، وأن يريح ضميره من خلال التدين والفلسفات البشرية، وأن يملأ فراغه عن طريق الانهماك في العمل الزمني، والفن والطرب والتسليات، والتحرر والانغماس في الشهوات العالمية.
وفي هذا العدد نواصل حديثنا لنرى أن الخطية أنتجت لعنة على كل الخليقة، فصارت تئن وتتمخض معًا. ونحن نتذكر الحُكم الذي صدر من الرب الإله على آدم بعد السقوط حيث قال له: «لأنك سمعت لقول امرأتك... ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تُنبت لك... بعرق وجهك تأكل خبزًا» (تكوين3: 17-19). والعالم من خلال الاختراعات الحديثة والتقدم العلمي والتكنولوجيا والكومبيوتر والإنترنت يحاول أن يخفِّف المعاناة، ويجعل الحياة سهلة ومريحة دون الحاجة إلى الله. إن النظام العالمي المتطور يُقدِّم دائمًا كل جديد، مستخدمًا ذكاء الإنسان وإمكانياته وقدراته في اختراع كل وسائل الراحة والرفاهية وتوفير الوقت والمشقَّة للإنسان. إنه يجعل كل شيء في متناول يده بسهولة تامة. وإن كان هذا حسنًا ومقبولاً ولا غبار عليه، لكن المشكلة أنه يقود للاستغناء عن الله وعدم الشعور بالحاجة إليه، وهذا هو غرض الشيطان.
وليس ذلك فقط، بل إن الخطية أنتجت شعورًا بالنقص والرفض. ومدرسة العالم تجعل الإنسان يشعر بقيمته وذاته، ويهتم بشكله وجماله وقوامه ورشاقته ومظهره. إنه يُقدِّم كل يوم وبلا انقطاع ما يجعل الإنسان (خاصة الفتيات) أكثر جمالاً وتألقًا وجاذبية في عيني نفسه وفي عيون الآخرين من الناحية الجسدية، ولا يهمه الجمال الأدبي والأخلاقي الذي يجعله مقبولاً أمام الله، ولا يزعجه قُبح الخطية الذي يشوِّه كيانه الداخلي. إنه لا يقتنع بقول الحكيم: «الحُسن غش والجمال باطل» (أمثال31: 30). إنه يمجِّد القوة الجسدية وليس القوة الروحية. ويلهث وراء العالم المادي والزينة الخارجية كالتحلي بالذهب ولبس الثياب الكثيرة الثمن وكل ما يحقق الافتخار والغرور والعُجب بالنفس وتشامخ الروح، وهذا يظهر في أحاديث الناس واهتماماتهم بحثًا عن الذات والشعور بالقيمة.
وليس ذلك فقط، بل إن الخطية أنتجت شعورًا بالخوف وعدم الأمان. وهذا ما نراه في قايين بعد أن قتل هابيل أخاه. لقد سمع رسالة قضاء من الرب قائلاً له: «تائهًا وهاربًا تكون في الأرض»، ويا له من شعور مُخيف بالطرد من محضر الرب والتيهان في الأرض! لقد خرج من لدن الرب وسكن في أرض “نود” التي تعني التيهان، فماذا فعل؟ لقد بنى مدينة (وهي أول مدينة في التاريخ)، ودعاها باسم ابنه حنوك، وذلك لكي لا يكون تائهًا ولا هاربًا في الأرض، بل ساكنًا ومالكًا. لقد بنى المدينة وسكن فيها لكي يشعر بالأمان المفقود. ووضع في هذه المدينة كل ما يروقه ويسعده ويسليه. إنها مدينة العالم المغرية والجذابة.
أخيرًا فإن الخطية أنتجت عنفًا وشراسةً وقتلاً واغتصابًا وسحقًا. والعالم من خلال القوانين والشرائع والحكومات الأرضية والسلطات المدنية، ينظم العلاقات بين الناس ويحفظ الحقوق والممتلكات العامة والخاصة ويكبح جماح الشر والفساد والبلطجة. إن هذه القوانين تضع الحواجز لتقلل الجرائم في المجتمع، ولكي يعيش الناس في سلام ومودة مع بعضهم. وقد قال الله لنوح: «سافك دم الإنسان بالإنسان يُسفَك دمه» (تكوين9: 6)، وكانت هذه أول حكومة في التاريخ بعد الطوفان. ويبقى السؤال: هل نجحت الحكومات والقوانين المدنية في إصلاح حالة الإنسان؟ وهل قلَّتْ الجريمة حقًا؟ إن الإنسان في شرِّه وجموحه يُقطِّع السلاسل ويُكسِّر القيود، ولا يقدر أحد أن يُهذِّب طباعه الشرسة. إنه في السجون يخترع شرورًا، ويخرج منها أكثر إجرامًا. فبدون عمل النعمة في القلب لن يتغير الإنسان. ونحن نتذكر أول جريمة قتل في التاريخ عندما قام “قايين” على “هابيل” وقتله، ولم يذرف عليه دمعة واحدة ولا شعر بالندم، بل بكل تبجُّح رد على سؤال الرب له: «أين هابيل أخوك؟» بالقول: «أحارسٌ أنا لأخي؟» (تكوين4: 9). ومن نسل قايين خرج “لامك” الذي قال في كبرياء قلبه: «قتلتُ رجلاً لجرحي وفتىً لشَدْخِي (كسري)» (تكوين4). وقبل الطوفان كانت الأرض قد امتلأت ظلمًا، وكان في الأرض طغاة وجبابرة (تكوين6). ورغم كارثة الطوفان التي قضت على العالم القديم، إلا أن الإنسان عاد إلى شَرِّه وشراسته، والكتاب يذخر بحوادث وجرائم القتل والإرهاب في كل تاريخ البشرية، وكانت أبشع الجرائم أنهم قتلوا رب المجد مُعلِّقين إياه على خشبة الصليب. وقد وبَّخ الرسول بطرس اليهود الذين اشتركوا في جريمة صلب المسيح قائلاً: «طلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل، ورئيس الحياة قتلتموه» (أعمال3: 14). لقد صار الحكام أنفسهم يقضون جورًا ويرفعون وجوه الأشرار، وفي موضع العدل هناك الظلم. هذه هي حالة العالم في كل العصور. وكم خاب الرجاء في الحكام والحكومات، وكم سحق الحكام شعوبهم، وهذا ما نراه بعيوننا الآن. وستظل الجرائم والمعاناة تزداد طالما العالم قد “وُضع في الشرير”، والشيطان هو رئيس هذا العالم وهو القتال من البدء.
وللحديث بقية بمشيئة الرب