ماذا جرى للناس في هذه الأيام؟!! سؤال يحيّر الكثيرين؛ فسلوكيات الناس باتت فَظَّة ومنفِّرة!! والسبب أن هناك أزمة حقيقية، ليست اقتصادية أو سياسية، بل هي أخلاقية فى المقام الأول. وبالتحديد هى أزمة فى “الذوق”، تلك الفضيلة السماوية، والتي بدونها ينحدر الإنسان إلى أحطِّ المستويات؛ فتراه بلطجيًا، يأخذ ما لغيره، متطاولاً على مَن حوله، ومؤذيًا للآخرين؛ سواء بالفعل أو حتى باللفظ!!
أننى أدق ناقوس الخطر أمام غياب هذه الفضيلة المسيحية، وأصرخ يارب... ذوقًا صالحًا ومعرفةً علّمني (مزمور119: 66)
تعريف الذوق
كلمة جميلة وهي بالإنجليزية: discernment وتعني التمييز الواعي للأمور، مع الكياسة ورقّة التصرّف.. أفلا نحتاج جميعًا إلى هذه الفضيلة؟!
خطورة عدم الذوق
لقد ميَّز الله الإنسان عن الحيوان كثيرًا؛ فنفخ فى أنفه نسمة حياة، وقال «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين1: 26)، أي مشابهته للخالق فى صفاته الأدبية الراقية السامية. وحتى يحقِّق الله للإنسان هذا السمو؛ أعطاه روحًا عاقلة مفكِّرة، ونفسًا تحمل كل المشاعر الرقيقة.
وهذا السمو يعبَّر عنه بكلمة “الذوق”. فتُرى ماذا يكون الإنسان بدون هذا الذوق؟!!
1. الوحشية لا الآدمية: يعبِّر المسيح عن شراسة صالبيه بالقول «أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي. خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي» (مزمور22: 20).
2. ضياع الصورة الألهية: فبدلاً من أن يتمثَّل الإنسان بالله في حنوه ولطفه وصفاته الرائعة، يصبح الإنسان ابنًا لإبليس متمَمًا شهواته؛ فما أبعد الفارق بين «مُتَمَثِّلِينَ بِاللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ» (أفسس5: 1)، وبين «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا» (يوحنا8: 44).
مصادر الذوق
بينما فشلت الثقافات العالمية فى تهذيب الإنسان وتغيير سلوكياته، نجحت فيه الخليقة الجديدة في المسيح يسوع؛ فالإنسان فى ذاته «كَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ»، وفى أحسن مستوياتة الأخلاقية يُقال عنه «مَكْرُوهٌ وَفَاسِدٌ الإِنْسَانُ الشَّارِبُ الإِثْمَ كَالْمَاءِ» (أيوب11: 12؛ 15: 16). فمن أين نحصل على فضيله “الذوق” الراقيه؟!!
1. عمل النعمة الإلهية: «لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ، لِجَمِيعِ النَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ» (تيطس2: 11، 12).
2. كلمة الله: «ذَوْقًا صَالِحًا وَمَعْرِفَةً عَلِّمْنِي، لأَنِّي بِوَصَايَاكَ آمَنْتُ» (مزمور119: 100).
3. حياة المسيح: الذي قال «تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ» (متى11: 29).
4. سلوك المؤمنين القديسين: «اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ» (عبرانيين13: 7).
سلوكيات الذوق المسيحي الراقي
الحياة المسيحية الحقيقية ليست شعارات وترنيمات أو معلومات، بل هي حياة المسيح السماوية التي تظهر من خلالنا في الجوانب الآتية:
1. ذوقيات الرد على الآخرين: ما أروع ذوق ربنا يسوع المسيح، ولا سيما فى كلامه مع الآخرين. انظر مثلاً كيف كان يتكلم مع السامرية والمرأة الزانية، وتذكر كيف ردَّ على من لطمه «إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟» يوحنا18: 23. تُرى كيف نرد على الآخرين؟!
2. احترام الآخر، ولا سيما الأكبر سنًا: أتعجب من ذوقيات داود وهو يحترم شاول الملك الشرير الذي أراد قتله، فيتكلم عنه وإليه بكل احترام فيقول عنه «سَيِّدِي، ... لأَنَّهُ مَسِيحُ الرَّبِّ هُوَ... يَا سَيِّدِي الْمَلِكُ... يَا أَبِي...» (1صموئيل24: 6-11). يا تُرى هل نحترم الآخرين؟!
3. الذوق فى التعامل مع الوالدين: إنه لأمر مرعب أن نري أتباع الرب يتمثّلون بالأشرار فى عدم احترام والديهم!! وما يرعبنى هذا التحذير الألهي: «اَلْعَيْنُ الْمُسْتَهْزِئَةُ بِأَبِيهَا، وَالْمُحْتَقِرَةُ إِطَاعَةَ أُمِّهَا، تُقَوِّرُهَا غُرْبَانُ الْوَادِي، وَتَأْكُلُهَا فِرَاخُ النَّسْرِ» (أمثال30: 17).
4. الذوق فى إنفعالات الغضب: لم يمنعنا الرب من أن نغضب، لكن حذرنا قائلاً: «اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا» (أفسس4: 26)؛ فالمسيح غضب، لكن لم يُسئ الى أحد «فنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِينًا عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ» (مرقس3: 5).
5. الذوق فى الصوت المنخفض. آه لو نعرف كم هو مؤلم ومزعج الصوت العالى والضوضاء للآخرين!! وهو أيضًا عدم مراعاة لهم في راحتهم أو مرضهم أونومهم!! فهل نتعلم من ربنا يسوع الذي قيل عنه: «لاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ» (متى12: 19).
6. الذوق وعدم البلطجة!! البلطجة كلمة تعبر عن سلوك نراه كثيرا فى هذة الأيام، ليس بين المجرمين، لكن حتى بين المحترمين!! فتجد من يأخذ حق غيره في الطابور أو المرور.. ما أروع كلمات صموئيل النبي هأَنَذَا فَاشْهَدُوا عَلَيَّ قُدَّامَ الرَّبِّ وَقُدَّامَ مَسِيحِهِ: ثَوْرَ مَنْ أَخَذْتُ؟ وَحِمَارَ مَنْ أَخَذْتُ؟ وَمَنْ ظَلَمْتُ؟ وَمَنْ سَحَقْتُ؟ وَمِنْ يَدِ مَنْ أَخَذْتُ فِدْيَةً...» (1صموئيل12: 3). بل وما أروع الذوق المسيحي الراقى «مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ» (رومية12: 10).
7. الذوق فى الألفاظ الراقيه: مثل “من فضلك”.. “لو سمحت”.. “شكرًا”.. “آسف” ... إلخ. إن الروح القدس الساكن فى قلب المؤمن يرقى بمستوي تعبيراته للآخرين، فتجد ألفاظه رقيقة غير جارحة «لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ» (أفسس4: 29).
أحبائي.. نفسي أصرَّخ وأقول ترنيمة الأطفال القديمه.. تحب تقولها أو تصليها معايا..؟!!
ربي يسوع علّمني أكون رقيق زيَّك
من فضلك خليني أتعلِّم منَّك
والناس لما يشوفوني يقولوا إني مثلك
عشان تصرّفاتي خلتني شبهك