أول ما يتبادر لأذهاننا فور سماعنا لكلمة “الإدمان” صورة لشاب تائه ذي عيون زائغة يسير بخطوات غير متزنة، ويرتسم أمامنا منظر زجاجات الخمر والمخدرات بأشكالها. لكن تعريف الإدمان أشمل وأكبر من ذلك بكثير؛ فالإدمان هو تسلط شيء ما على الإنسان لدرجة أنه لا يستطيع العيش بدونه. وبالطبع هذا التعريف ينطبق بشكل واضح على المكيفات التي تتسلط على الإنسان لدرجة أنه يفعل أي شيء للحصول على جرعة منها. لكن حديثنا الآن لا نقصد به هذا النوع من الإدمان الذي يتخذه الشيطان وسيلة من وسائل إمتلاك البشر الخطاة الذين لم يملِّكوا المسيح على حياتهم بعد، إنما نحن بصدد الحديث عن أنواع أخرى من الإدمان تصيب المؤمنين، خصوصًا في أيامنا هذه، حتى إن المؤمن يتملكه ذات الشعور الذي يتملك المدمن بأنه لا يستطيع العيش بدون هذا الشيء الذي يتسلط عليه مع الأسف الشديد. وقد تكون هذه الأشياء أمور عادية لا تصل لحد الخطية، إلا أنها أيضًا لا ترقى لمستوى الممارسات الروحية السليمة، وكما علمنا بولس الرسول أن «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ» (1كو6: 12). فكون الشيء تسلط عليّ معناها أنني وصلت لمستوى إدمان ذلك الشيء.
ومن الأمثلة المنتشرة جدًا بين المؤمنين لأشياء تسلطت علينا وأصبحنا ندمنها، على سبيل المثال لا الحصر:
إدمان الإنترنت حيث نقضـي وقتًا طويلاً نتصفح شتى المواقع - ولا أقصد هنا المواقع الإباحية؛ لأن هذه خطية واضحة لا جدال عليها - لكننا نتكلم عن الأشياء التي تبدو في ظاهرها حسنة، ولكنها تحمل في طياتها سمومًا قاتلة. فهناك مؤمنون يقضون أغلب يومهم على الإنترنت؛ يتصفحون المواقع الإخبارية وينتقلون إلى صفحات التواصل الإجتماعي (فيسبوك وتويتر) يتبادلون التعليقات واللقطات، وتمرّ ساعات أخرى في التعرف على كل ما هو جديد في شتى المجالات. ثم يختتمون يومهم بساعات أخرى في الدردشة عبر الإنترنت في أمور لا تُفيد بل تزيد من الشعور بعدم الإكتفاء. لكنها أصبحت عادة يومية لا بد منها، أو بمعنى آخر ،أصبح الأمر إدمانًا، حتى أنه في اليوم الذي يكتشف بعضهم فيه عدم وجود الإنترنت أو حتى بطء سرعته، تُفاجأ بهم يتعاملون بعصبية شديدة ولا يعرفون كيف يتصرفون، تمامًا كأي مدمن لشيء آخر. كم سيعانون حينما يخروجون للحياة العملية والواقع الذي حُرموا منه بإدمان الإنترنت. عندئذ يكتشفون أنهم كانوا بعيدًا كل البُعد عن الواقع، وبالتالي ستكون النتيجة عدم استطاعتهم التعامل مع الناس من حولهم؛ إذ لم يعتادوا على ذلك طوال الوقت الذي قضوه بين صفحات الإنترنت، هذا غير فقدان ساعات وأيام وسنين لم يقضوها مع إلههم لمعرفة مشيئته وتعلم أمور تُفيد أعظم استفادة في الحياة الروحية والعملية.
أمرٌ آخر أصبح الآن إدمانًا يملك على سلوكياتنا هو
إدمان الظهور وخصوصًا في مجال الخدمة؛ فمع كثـرة الاحتياج أصبحت أبواب الخدمة كثيرة جدًا لدرجة أن كثيـرين يخدمون في عدة مجالات في وقت واحد؛ فهناك من يخدم في مدارس الأحد واجتماع الشباب ومشترك في فريق الكرازة ويخدم كذلك من خلال مواقع مسيحية على الإنترنت، ولا مانع من المشاركة في بعض الزيارات مساءً ... الخ، كل هذا رائع جدًا ولا غبار عليه، من ناحية؛ لكن من الناحية الأخرى هل يقابله نفس المجهود في الصلاة ودراسة كلمة الله؟ هل تقضي وقتًا أمام الله قبل نزولك للخدمة حتى تعرف ماذا يريد منك الرب وما الذي عليك أن تقوله لمخدوميك؟ أم أن الخدمة أخذتك من رب الخدمة! لقد أصبحنا مدمنيـن لنظرات الإعجاب في عيون الناس ونحن نخدم، ومدمنين لمشاعر الإعجاب بأنفسنا ونحن نقوم بعدة خدمات في ذات الوقت، ومدمنين للشعور بالمشغولية طوال الوقت. أدعوك اليوم صديقي الشاب أن تراجع نفسك وتسأل: هل للخدمة تأثير حقيقي عليّ وعلى من أخدمهم أم أنها مجرد نشاط زائد وشعور نفسي ممتع بدون فائدة ولا يجلب ثماره المرجوه؟
مثال آخر للإدمان قد تستغربه، لكنه موجود وبقوة بيننا في هذه الأيام؛ إنه
إدمان المعرفة الكتابية. نعم، فلدينا اليوم كثيرون من المؤمنين قد أدمنوا معرفة كل ما هو جديد في كلمة الله، وهذا أمر غاية في الروعة إذا أصبح مؤثِّرًا في حياتنا العملية، لكننا هنا نتكلم عن تلك الفئة التي تمتلك رؤسًا ضخمة جدًا وأرجل قصيرة ونحيلة، أو بمعنى آخر معرفة في الرأس ونقص شديد في السلوك، تلك الفئة التي تنتقل من إجتماع لإجتماع ومن مؤتمر لآخر وتستمع لشتى الخدمات والخدام على شبكة الإنترنت؛ كل هذا في سبيل زيادة المعرفة الكتابية والتفنن في استغلالها واستخدامها في الحديث للتباهي بها وإرسال رسالة خفية لمن يعرفونه ويسمعونه أن لديه معرفة كتابية وثقافة روحية لا يستهان بها، إنهم يذكروننا بما قيل «الأَثِينِوِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَالْغُرَبَاءُ الْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ، إِلاَّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئًا حَديثًا» (أع17: 21). فهناك الكثيرون منا في هذه الأيام تفرَّغوا لسماع وحفظ وترديد كل ما هو جديد، دون الشعور بلذة وروعة هذا التعليم.
ونتيجة لهذا الأمر، أصبحنا جميعًا نتبادل عبارات كاملة لا نفهم معانيها وأبعادها، وإنما نستخدمها لمجرد الظهور بمظهر العارف والفاهم جيدًا للغة الكتاب، دون حتـى التفكير في معناها الحقيقي أو مصدرها. أدعوك أخي الحبيب أن لا تعيش بكلمات وعبارات تسمو كثيرًا فوق إختبارك في الحياة الروحية، وإنما اجتهد بنعمة الله أن تتذوق ما تسمعه، وتعيش ما تقرأه في كلمة الله، قبل أن تجاهر به في الجلسات والاجتماعات والزيارات؛ حتى يترك كلامك أثرًا حقيقيًا في نفوس سامعيك.
أما عن الإدمان الإيجابي، والذي لا بد لكل مؤمن أن يبحث عنه، ولا يهدأ حتى يصل إليه، فهو
إدمان التمتع بالشركة والعشرة مع الله؛ فلو كان معنى الإدمان هو تسلُّط الشيء على كيان الإنسان حتى ينتابه الشعور بأنه لا يستطيع العيش بدونه، فما أحلى أن نُدمن كلمة الله والصلاة. هذا النوع الرائع من المؤمنين، إذا مر عليه يومًا دون أن يقضـي وقتًا مع إلهه، تجده ليس في حالته الطبيعية ويمتلكه شعور بأن شيئًا حيويًا ينقصه، ولا يهدأ أو يستكين إلا بجلوسه بين يدي سيده ليقضي وقتًا في الحديث معه والإستماع إليه. ليتنا ندمن تلك المتعة التـي لا تضاهيها متعة، ونُصر على تلك الجلسة الحبّية والشركة العميقة مع الله؛ حتى يتصور المسيح في حياتنا ونشابه صورته، وحتى يطرح عنا كل إدمان لا يمجده في حياتنا، بل يكون الوقت والحياة له وحده، ويصير الفكر والقلب والسلوك ملكًا له دون سواه.