قد تسمعها من إنسان معزيًا غيره، يلبس قناع الحزن، ويحفظ أبجديات العزاء: “البقية في حياتك”، “كلنا لها”، “ما دايم إلا وجه الله”.
أو قد تسمعها من إنسان متأثرًا بالفعل، رافعًا نظره للسماء، ومعتَبِرًا من مآسي الأرض، ويتمتم متعجبًا: الدنيا فانية، آدي الله وآدي حكمته، الموت علينا حق!!
ورغم كونها خاصة بأسوأ حادث وأكأب سيرة؛ وهو الموت، ورغم كونها لقمة سائغة في ألسنة البشر وحوارات الشوارع، إلا أننا هنا سنلقي عليها نظرة عميقة ومفصلة، لنرى فقط الجانب المضيء منها، ولندرك معًا روعة ووجوب ولذة أن نختبر أن “الموت علينا حق”!!
“الموت علينا حق” والدخيل!
لا جدال أن الموت هو حقيقة يتفق على وجودها جميع البشر، مهما اختلفت دياناتهم أو فلسفاتهم؛ حتى إن اختلفوا في وجود حياة بعد الموت من عدمه، أو في تفاصيل وأسباب الموت نفسه. ويرون أنه لا قوة ولا فلسفة ولا سلطة يمكن أن تمنع مجيء الموت، أو تؤجِّل قدومه، أو حتى تخفِّف من وطأته، لأن “الموت عليهم حق”!!
على أن ما يفوت الكثيرين، أن الموت هو عنصر دخيل على التاريخ البشري، وأن الله لم يخلق الإنسان على صورته، وينفخ فيه نسمة حياة، ويهيء الجنة لراحته ومتعته (تكوين1: 26؛ 2: 7، 8) لكي يميته في النهاية!! ولكن الموت دخل خلسةً للبشرية، حين أخطأ أبونا آدم في الجنة، وعصى الله بأكله من شجرة معرفة الخير والشر، وطبقًا للقانون الإلهي غير القابل للتغيير: «أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية6: 23)، صدر الحكم بالموت، وامتد تنفيذ هذا الحكم إلى كل نسل آدم «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رومية5: 12)، وأصبح “الموت عليهم جميعًا هو حق”!!
ولأن الموت عنصر دخيل، فقد جاء ابن الله «الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ» (1تيموثاوس6: 16)، و«وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فيلبي2: 8)، وحينها تلقى الموت “الدخيل” ضربته القاضية في صليب المسيح عندما «أبطل الموت» (2تيموثاوس1: 10)، وتحول الموت الدخيل، إلى حياة أبدية مُعَدَّة لأولاد الله!! وقريبًا سنسمع الكلمات المجيدة في الأرض والسماء الجديدة «وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ» (رؤيا21: 4)، وستُبطل للأبد كلمة “الموت علينا حق”!!
“الموت علينا حق” والحَبة!
وهنا ننتقل لنوع آخر من الموت لا يتذوقه كل البشر، ولكن يختبره نفر قليل من المؤمنين بالمسيح!! وهذا الموت تكلم عنه المسيح في آخر سويعاته على الأرض، عندما قال «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ...» (يوحنا12: 24). هنا يخبر المسيح تلاميذه، أن من يبحث عن الحياة والثمر والسعادة في هذا الكون، عليه أن يخضع لقوانين الحياة فيه؛ وأعطاهم مثالاً رائعًا بحبة الحنطة (القمح)، والتي لكي تنمو سنابلها، وتتزايد ثمارها، وتتمم رسالتها في سداد حاجة البشر، عليها أولاً أن تقع في الأرض وتموت؛ لأن الموت هو السبيل الوحيد لحياتها وحياة الآخرين معها؛ فقانون ودورة حياة الطبيعة أن “الموت عليها حق”!!
ولأن المسيح كان دائمًا يعيش قبل أن يعلِّم (لوقا24: 19)، فقد قَبِلَ أن يقع ويموت في الأرض، وكان النتيجة المبهرة أنه أثمر ملايين الملايين من المؤمنين، الذين سيملأون أركان بيت الآب الأبدي. والعجيب أنه رغم أنه لم يفعل أي خطية، والموت ليس له “أي حق” عليه، إلا أنه ارتضى أن يموت مثل حبة الحنطة، وينفذ كلامه حرفيًا أمام الجميع، لكي يحظى بنا نحن الثمر الكثير.
ولكن من يقرأ كلمات المسيح السابقة بتمعُن، يكتشف أن المسيح بعدما تكلم عن موت الحبة، فإنه نقل التلاميذ فكريًا ليتكلم عن الحياة والخدمة والتبعية « إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآب» (يوحنا12: 26)، وهنا بيت القصيد؛ فكأن المسيح يقول لتلاميذه: أنا هو “الحبة” التي وقعت وماتت، فأثمرتكم أنتم، وأنتم مثلي تمامًا، ومكانكم معي تحت الأرض «حيث أكون أنا يكون خادمي»، وموتكم هو السبيل الوحيد لحياتكم ولتعميم ثمركم. قد تدوسكم الأرجل والأقدام، قد تهبطون من علياء راحتكم ورفاهيتكم، قد تُنتهك كرامتكم وتنحط مكانتكم، قد تقضون أيامكم “مائتين” تحت التراب وبعيدًا عن الأضواء، ولكن لا تقلقوا فهذا هو الموت الذي أبتغيه لكم، لأن “الموت (كالحبة) عليكم حق”!!
“الموت علينا حق” والدرس!
وفي رأيي المتواضع، أن موت حبة الحنطة السالف ذكره، هو أهم درس في مدرسة الله، وأروع اختبار يمكن أن يختبره المؤمن السماوي في حياته، وليس هذا فقط، ولكني لن أكون مبالغًا حين أرى أن هذا الموت، هو حل لجميع المشاكل الاجتماعية والكنسية على حد سواء؛ فهل رأيت مشاجرة تحدث بين مجموعة من “الأموات” على منصب أو مكانة أو مركز؟!! أو هل سمعت عن تنافس بين مجموعة من “الجثث” على من هو أجمل ومن هو أفصح ومن هو أكثر خدمة وتأثيرًا من الآخر؟! بالطبع لا، فمن يعرف متعة أن يموت، هو الوحيد الذي يعرف كيف يحيا!!
عزيزي القارئ، اسمح لي أن أتمنى لك طول العمر وامتداد الحياة، واسمح لي أيضًا أن أتمنى لك ولي، التمتع بروعة هذا الموت!! وأدعوك أن تطلبه من الرب في صلاتك، وأن تقبل كل وسائل “الإماتة” التي يستخدمها الله في حياتك، فقد يسمح لك بانهيار مشروع عالٍ يداعب خيالك (نجاح، عمل، خدمة)، ويفاجئك بـ“وقوعك” من علياء أحلامك بسرعة الصاروخ، فيما يرتفع غيرك بسرعة البرق!! وقد “يرزقك” الله بإنسان يحقِّر من شأنك ومن قدراتك ومواهبك، أو غير ذلك. فلا تقلق لأن كل ما سبق يستخدمه الله لإماتتك، وبالتالي لحياتك وبركتك وثمرك، فلا تَغِر من البذور الطافية على السطح، واقبل الدفن بعيدًا عن الأضواء، واعرف أن سر سعادتك ونصرتك وصلابة شركتك أن تدرك قيمة ومعنى ودرس أن “الموت عليك حق”!!
كنت باسأل في حيرة: ليه باتألم، ليه باتحرِم، ليه بانزل والكل طالع
ليه الأقدام بتدوسني، والتراب مفطسني، ويوماتي غامسني، وفي الأرض واقع
أتاري الموت ده حق عليَّ ومجد ليك
وده الطريق اللي قبلي مِشيِّته رجليك
واللي بدونه لا خدمة ولا ثمر ولا حياة ترضيك
جايلك حابب وطالب موتي عن كلي، وماعنديش لا شرط ولا مانع
لحد ما تحيا بحياتك في موتي، وتفاجئني بفَجري اللي ساطع