ما أكثرها في شوارعنا، وما أميزها لمجتمعاتنا، فهي تحاصرك في كل مكان، على أي رصيف كان أو بستان.
قد تجذب مشاعرك حينًا، فتبدي تعاطفًا ورقة وحنان، وقد تشمئز من تكرارها، فتصرف نظرك عن قائلها، وتُصِمَّ أذنك عن سماعها، وتدفعك للنسيان!!
وعلى قدر انتشار كلمة “حاجة لله”، وعلى قدر تحوّلها إلى ظاهرة متمددة، فيقينًا لنا فائدة روحية فيها، ومعنى كامن في بطنها!!
“حاجة لله” والدوافع!
عندما يقترب إليك متسول يرتدي ملابس بسيطة، ويقول لك: حاجة لله يا بيه!! فإن أول فكرة تتبادر في ذهنك، هي عن دوافع هذا المتسول: هل هو يمثل عليك؟ أم أنه فعلاً يحتاج للمال؟! هل دوافعه فعلاً نقية وهو يطلب المساعدة؟ أم أن دوافعه خبيثة ويريد “استعباط” غيره، ويدّعي إصابته بعاهة معيَّنة ليأخذ ما ليس من حقه؟! وعبثًا تحاول معرفة أصل وطبيعة دوافع هذا المتسول، فتستلم لأول خاطر يأتي إليك، فإما تمد يدك لإعطائه المال، أو تقول له أبجديات الردود المعروفة (ربنا يديك ويدينا، يحنن، وغيرها)!!
ورغم أهمية اكتشاف دوافع من يقول لك: حاجة لله، للحفاظ على وقتك أو مالك، لكنني هنا يعنيني دوافع من يسمع هذه الكلمة ويتجاوب معها!!
لاحظت أنه رغم اختلاف الديانات والثقافات والأوضاع الاجتماعية، ورغم كون كثيرين بعيدين عن معرفة الله فكريًا، وعن تقواه أخلاقيًا، فإن الإنسان الطبيعي يشعر بشعور عميق، لا تفسير له، أنه مديون لله الذي خلقه، وأن الله له “حاجة” عنده!! وبالتالي فإنه يعتبر هذا المتسول المسكين، مندوبًا عن الله يأتي ليذكِّره بهذه “الحاجة” التي لله عنده، فيستيقظ ضميره السامع فجأة، وينتعش شعوره الأصيل نحو الله، ويتجاوب مع كلمة “حاجة لله”، فيرتاح ضميره، ويشعر بتبسم الله له بعد أن أخذ “الحاجة” التي له!!
“حاجة لله” و التصحيح!
وطوال التاريخ كان يتساءل البشر - وربما يتساءل القارئ العزيز معهم: ما هو الشيء الذي يريده الله من الإنسان؟ وما هي هذه “الحاجة” التي يشعر الإنسان دائمًا أنه مديون بها لله؟!! هل هي عطايا مادية (أموال، عقارات، نذور...)؟ أم هي عطايا معنوية (تمجيد، شكر، تعظيم...)؟ أم أنه شيء أخر؟!!
الحقيقة أن الله جل جلاله مكتفٍ بذاته، وبالتالي فهو لا يحتاج أي شيء من الإنسان؛ لا شيء مادي لأنه «مالك السماوات والأرض» (تكوين14: 19)، الوحيد الذي «يُفقر ويغني، يضع ويرفع» (1صموئيل2: 7)، ولا شيء معنوي لأنه «ملك المجد الرب القدير الجبار» (مزمور24: 8)، وله ربوات من الملائكة التي تسجد له وتقدم له الحمد الجزيل (إشعياء6: 2، 3)، وخليقته البديعة الممتدة عبر حدود لا تحتويها التلسكوبات، تنشد هي الأخرى في كل لحظة وفي كل رمقة من النور «تحدِّث بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه» (مزمور19: 1). إذًا فالله المهوب العلي حاشا أن يحتاج شيئًا من الإنسان، أو أن يعوز لأي “حاجة” له!!
فالأمر إذًا يحتاج تصحيحًا لازمًا؛ فالله لا يريد أن يأخذ من الإنسان “أي حاجة”، ولكن يريد أن يعطيه “كل حاجة”، فهو لا يرى العلاقة بينهما علاقة دائن ومدين، ولكن يريدها علاقة أب بابن، فقد خلقه على صورته البارعة (تكوين1، 2)، ومنحه عقلاً رائعًا ليستخدمه، وسلطانًا على الخليقة، وزوجة تعينه وتؤنس وحدته، وشمسًا وقمرًا ينيران له، ورزقًا يوميًا يقتات به، وجسدًا عظيمًا يجعله يتمتع بكل ما سبق، ويشمله دائمًا بكل معاني الرحمة والخير والحماية.
والأعظم أن الله منح الإنسان أغلى ما يملك، ابنه الفريد الحبيب يسوع، الذي حل للإنسان أعظم مشكلة؛ وهي الخطية، حين «بذل ابنه الوحيد...» (يوحنا3: 16)، وهو «عطيته التي لا يعبَّر عنها» (2كورنثوس9: 15). ومنحه أيضًا “على البيعة” كل شيء له، كما عبر الرسول بولس «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟» (رومية8: 32). وبالتالي فالله لا يريد أن يأخذ شيئًا من الإنسان – كما يصور إبليس الكذاب له – ولكن يريد أن يعطيه كل شيء، وإن شئنا الدقة فإن الله لم يُبقِ شيئًا عنده لم يعطِه للإنسان (1كورنثوس2: 9). فهل هناك “حاجة” بقيت عند الله لم يُعطِها للإنسان؟!!
“حاجة لله” والوديعة!
إذا اقتنعت – عزيزي القارئ - إن الله يريد أن يعطي الإنسان كل “حاجة”، ولا يريد منه “حاجة”، فلا بد أن تتوقف حين تقرأ هذه الكلمات «يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي لأَنَّ الزَّانِيَةَ هُوَّةٌ عَمِيقَةٌ وَالأَجْنَبِيَّةَ حُفْرَةٌ ضَيِّقَةٌ هِيَ أَيْضًا كَلِصٍّ تَكْمُنُ وَتَزِيدُ الْغَادِرِينَ بَيْنَ النَّاس» (أمثال23: 26-28)، وهنا ربما تتساءل معي: يا رب لماذا تريد قلب الإنسان؟! ألم تقنعني أنك تريد أن تعطيني ولا تأخذ شيئًا مني؟ أم أنك تريد ضمان ولائي لك، وتحجر على إرادتي وقراراتي؟ ولماذا يكون القلب هو “الحاجة” التي تريدها منه؟!!
والحقيقة أنني اكتشفت اكتشافًا مزدوجًا، في وجهه الأول، أن هذه هي المرة الوحيدة في التي يقول فيها الله للإنسان “أعطني”. وفي وجهه الثاني أن طلب الله لقلب الإنسان، ليس تسلطًا منه، ولا جبرًا على تسليم إرادته ومشاعره له، ولكن لأن الله – العاطي الأعظم – يريد كل البركة والخير للإنسان، فهو يدرك جيدًا أن القلب «منه مخارج الحياة» (أمثال4: 22)، وأنه مصدر كل فكر وكل فعل وكل قول (متى15: 18)، ويعلم أيضًا أن كثيرين يطمعون في هذا القلب (ذكر الرب واحدة من هؤلاء الطامعين «الزانية... والأجنبية كلص تكمن»).
وبالتالي فإن الله يطلب من الإنسان، أن يعطيه قلبه وديعة، لكي يحفظه له في أفضل مكان، وبأحسن عائد للاستثمار، لأنه وقتها سيضمن أن يعيش أروع حياة، ويجني في حياته أروع مكاسب، ويحفظ وديعته من أن تقع في يد من لا يرحم، ولا يعرف سوى القتل والجراح «لأنها طرحت كثيرين جرحى و كل قتلاها أقوياء» (أمثال7: 26).
عزيزي القارئ، في كل مرة تسمع كلمة “حاجة لله”، تأكد أن لله شيئًا عندك، وتأكد أن هذا الشيء ليس أموال ولا أمور معنوية، لأنه أبيك الغني الذي أعطاك وسيعطيك كل شيء، ولكن هذا الشيء وهذه “الحاجة” هو قلبك، والذي أدعوك أن تستودعه آمنًا في يدي خالقك، لا لكي يستعبدك ويذلك كما يصوِّر لك إبليس، ولكن لكي يسعدك ويرغِّد أيامك بالخير. فهل تعطيه له؟!
كنت فاكر إنك عايز تاخد مني، ومش عايز من يدك تعطيني
وإنك دايمًا مدايني وحارمني من خيرك، ومش راضي تفهمني وتحتويني
أتاريك مديني كل حاجة منك بديعة
وفوقها كان صلب إبنك، وتحمّله للوجيعة
بس عايز مني حاجة؛ قلبي تحفظه لي وديعة
جايلك بقلبي ومشاعري وقراري، وكل حاجة في يميني
ليك الأمر في حياتي، إنت تحركني وتوقفني، وتاخدني وتوديني